صباحًا وأنا في طريقي إلى المدرسة لاحظت نفسي -كفشتني- وأنا أراجع أفكار درسي اليوم، أطبقها عمليًا، التسارع الموجب والتسارع السالب، أحلل كل حركة لسيارتي في محاولة لكسر روتين الطريق. أربع حالات كنت أتردد بينها، ولأن طريقي يشمل العبور بنفق وجسر وبالتأكيد الكثير من المنعطفات، كان التطبيق يشمل الحالات الأربع بكل سهولة ووضوح. حين أدركت ما أقوم به -فجأة- ابتسمت وأكملت مع حرص على توفر كامل الحالات خلال مشواري. الأمر استمر إلى جزء من طريق العودة حين تذكرت ما شرحته اليوم وهنا يجدر بي الإشارة إلى استخدامي حالات التسارع التي توفرت في مشواري كأمثلة واقعية عن التسارع الموجب والسالب بجميع حالاته.
وهنا أشير إلى أن هذا الفعل قديم ودائم ومفضل، سواء لاحظت نفسي أو لا، منذ أيام دراستي في الجامعة بقصد أو بدون، كنت أسقط مواضيع الدروس على واقع أيامي. وفي هذا متعة فائقة لكل عاشق للفيزياء.
والمجد كل المجد، للفيزياء والفيزيائيين.
على هامش الفيزياء والتسارع: بحثت في هاتفي عن صورة للطريق، ووجدت بأني كثيرًا ما أرد على سؤال: وينك؟ بصورة فورية. وهذه طريقتي المفضلة للإجابة عن مثل هذا السؤال أو: ايش تسوي؟ صورة تختصر.
أجلس لأكتب هذه التدوينة -على استحياء- بعد جملة من المسوّدات في رأسي، كالعادة يعني ولا جديد في ذلك. حتى هذه التدوينة لم تكن لولا عودتي لمجلد الرسائل المرسلة وقراءتي لما كتبته منذ منتصف أكتوبر، فكنت كمن ينهمر في مكان (الرسائل) ليجف في مكان آخر (هنا) لكن توقفي هنا جاء جزء منه بقصد التوقف عن نوع معين من الكتابة والالتفات إلى نوع آخر. والآن كمحاولة للعودة، سأقتبس بضع فقرات من رسائلي الأخيرة. للأبد للرسائل الطويلة جمال لا يضاهيه أي صنف أدبي، استخدمها مسوّدة وas a second mind وسجل توثيق للمهملات قبل المهمات، وتجريد وجرد وتصنيف، لكل شيء.. ومهما قلت وتحدثت لا أوفي كتابة رسالة واحدة حقها. يجدر بي الإشارة وبعيدًا عن الرسائل، الكثير من مشاريع الكتابة محفوظ إلى وقت غير معلوم، لدي أفكارًا أنتظر تنفيذها كما أفتقد وبشدة قراءة الأدب < لازم أقول كل شيء.
لا بأس لي عودة هنا بإذن الله، والآن مع مقتطفات الرسائل.
٣١ أكتوبر: قرأت فقرة من كتاب المتخفي الحيوات السرية للدماغ:
ونحن لسنا واعين إلا بالقليل جدًا مما يوجد في الخارج. فيقوم الدماغ بصياغة افتراضات لتوفير الوقت والموارد ويحاول ألّا يرى العالم إلّا بالصورة التي يحتاج إليها.
وهذه حقيقة ملموسة لكل من يحاول ملاحظة نفسه أو الآخرين من حوله، وأظن أن ملاحظة أنفسنا تحت تأثير عبورنا بظروف عدة كفيل باكتشاف واقعية هذا المعنى.
١ نوڤمبر: في الصباح أثناء قيادتي فوق الكبري تذكرت بأن اليوم هو ١ نوفمبر، وأنا أحب البدايات الزمنية أجد فيها فرصة حقيقية وإن قصرت للبدايات الجديدة. الفكرة المسيطرة كانت التركيز على ذاتي أكثر، وعلى من يهمني أمرهم.. الانشغال بأمور ذات قيمة بعيدة كل البعد عن المهاترات والسخافات، الابتعاد عن الفضول دون معنى، وووالكثير مما أود تذكير نفسي به. وجودنا في دوائر اجتماعية يحتم علينا التعرض لمثل هذا، إضافة لتطبيقات التواصل الاجتماعي، لست مثالية لكن فعلًا مثل هذا يسلب الكثير من أوقاتنا وتركيزنا وطاقتنا…. لسنا مراهقات!
٢ نوڤمبر: تناقشت وصديقتي عن الأثر الذي يبقيه مرور أحدهم، كيف لدخول شخص خاطئ (أو صحيح) إلى حياتك يخلّف وراءه كل هذا الأثر والظهور؟ لي ولها تجربتنا مع اختلاف المدة، ……… لكن لماذا دخول شخص إلى حياتك يبقيه إلى هذا الحد؟ أرجّح صدق الشعور لأنه يحف التفاصيل بهالة تبقيها. بصرف النظر عن التفاصيل، ربما يبقى هذا الأثر إيجابيا أو سلبيًا مشكلتي ليست في نوعه إنما في تواجده من الأساس حين لا أرغب به. كيف حياتي وتفكيري كانا خاليين تمامًا من طيف ذلك الشخص، والآن قد يعرّج ويظهر في لفتة هنا أو هناك؟فكرة مبتذلة بعض الشيء.
٣٠ نوڤمبر: أحب نهاية الأسبوع، بهجة دائمة مكررة لا نملها ولا تفقد انتظارنا لها. وما أحبه أكثر، هو خوض تجارب صغيرة، مطعم أو مقهى أو نكهة جديدة من شيء ما، أظن بأن هذا الفعل البسيط هو رصيد عيش لذيذ وجميل. والأكثر أحب الهدوء وغالبًا ما يزداد ارتباطه بنهاية الأسبوع إذا كان خاليًا من صخب العائلة الممتدة. ومنه أحب كذلك الروتين، في الحقيقة.. أرى أني مدفوعة للتحدث عما أحبه من أيامي لأني ما زلت تحت تأثير استشعار الجمال الكامن وراء اختلاف نمط أيامي.
بعيدًا عن كل شيء، يبدو جيدًا وجليًا أني أعيش (حبسة الكتابة) ممتدة طوال عام ٢٠٢٤، فلم تتجاوز دفاتر يومياتي اثنين، وتدويناتي قليلة جدًا جدًا جدًا وأخيرًا الحال مع رسائلي. والأخيرة هي الأحب لقلبي.. أريد أن أكتب لكن الأمر لا يتجاوز رغبة يزعجني صدى ترددها في رأسي.
أحاول دومًا الموزانة بين جمود الفيزياء والهندسة بمزجهم بالأدب إلا أن ٢٠٢٤ الأقل على الإطلاق في قراءتي الأدبية، تكاد تقترب للصفرية وربما أتدارك الوضع في آخر شهر.
صممت جدولًا لمتابعة تقدمي فيما أقوم به من اهتمام بجودة الطعام والرياضة والنوم والماء ،، 👇🏼
على أن أسجل كل هذا التتبع في آخر دقائق من يومي قبل النوم، وذات مرة لاحظت مدى وتيرة أيامي، تميل في طبعها كما يعتقد بعض من حولي إلى البطء الذي هو انعكاس لي. ومنها بدأت في التأمل قليلًا، الوتيرة البطيئة أو لأقول الأثر التراكمي الصغير هو ما أفضله، كنت أفكر حينها في طبيعة تواجدي سواء في الواقع أو برامج التواصل. قبل سنوات كنت كاتبة في البايو: في الظل، انكفاء واكتفاء..وصورة: في الركن البعيد الهادئ، هذا ما أميل إليه في معظم أوقاتي، وسمة الهدوء أو البطء أجد فيها راحتي، وقليل دائم خير من كثير منقطع، ووو
انكمشت مؤخرًا لينحصر تواجدي في كافة التطبيقات إلى مشاركة أكواب القهوة وصفحات الكتب وبعض المشاهدات، ابتعدت عن اليوميات الشخصية وتفاصيل أيامي بخلاف ما كنت أفعله يوميا في مدونتي! مع استمرار توثيق لحظاتي، الاختلاف خاص بالمشاركة فقط.
حين أفكر في حياتي أتخيل كما لو كنت أنظر إليها من بعيد، لأرى نمطًا أحبه من التواجد على كافة الأصعدة، عنوان رئيس هو كما قلت قبل قليل: القليل الدائم، بوتيرة هادئة. ولأني أحب القراءة، تعطيني قناتي في تلقرام شعورًا لطيفًا وأنا أرى إضافاتي فيها متتابعة تبعًا لما أقرأ، ومن هنا يأتي الحال تأكيدًا لفكرة تعظيم استشعار اللحظات الصغيرة اليومية والتي بدورها تشكل فارقًا حقيقًا.
كوب القهوة والكتاب والمشاوير والرفقة الطيبة والدوام والقراءة والكتابة والنادي وتجارب الطعام والوصفات الجديدة والمعلومات والفوائد الغذائية الجديدة وتجربتها لأرى واقعية أثرها، والكثير، هذه الحياة بمعناها الشاسع شاملة أدق تفاصيلي لأعظمها، أنا أعيشها ثم أعيشها مرة أخرى بشعوري المرافق لها وهي طيفًا يدور في رأسي، لا أعلم كيف أعبر عن مدى غبطتي التي تطوف بي حقًا.
ربما أكثر من التحدث عن تفاصيل أيامي وأكرر، لأن الفترة الحالية هي أشبه بطوق النجاة وعودة بعد انقطاع دام لأشهر، فالعودة لي ولروتيني.. كانت عودة بتدرج وانتكاسات إلى الوصول أخيرًا والحمدلله. والأهم هي انتعاش نفسيتي ومزاجي وقدرتي على التعاطي مع الأمور ونظرتي للأشياء عادت إلى نسختها التي عهدتها عن مشاعل بعد ضباب وبرد قارس!
٧ ديسبمر: سمعت اليوم بودكاست Brain Science وقالت الدكتورة جملة رأيتها معبرة جدًا! كانت تصف مالذي يجعلنا بشرًا؟ وأول ما قالته: “Fundamentally, we’re designed to feel, and it is ironic because people actually have feelings about feelings!”
هذا المعنى العميق؟! لم أفكر فيه من قبل رغم كثرة تواجده في حياتي، هي ضربت مثال البكاء، أن تبكي أمام صديقك المقرب، البكاء هو الشعور الأول والشعور الثاني هو ما يكون حيال شعورك الأول لن يكون سلبيًا بمعنى لن تشعر بالغضب لأنك بكيت أمامه، فين حين لو أنك بكيت أمام مديرك في العمل فسيكون شعورك حيال هذا البكاء سيء، ومن هنا الشعور الأول البكاء، الشعور الثاني ما تشعره حول البكاء!! مثالها رغم بساطته إلا أنه جعلني أفكر أو استعيد لحظات مضيئة في حياتي شعرت فيها بشعور حيال شعور آخر أصلًا! اهخ عامة، الدماغ وكل ما اتصل به مدهش وعظيم وآسر وخلاب ودهشات وصدمات متواصلة لا تنتهي.
تعقيبًا على معرض الكتاب، تبدو زيارتي هذه المرة دون قائمة، إذ مثل هذا الوقت من كل عام عادة ما تكون قائمتي جاهزة، أتمنى تجربة ذلك. وعلى الهامش: سمعت خلال الويكند امشِ مع أمل السهلاوي، حديثها عن الكتابة هو بالضبط ما أريده وأتمناه، أن أكتب الأشخاص والأحداث والأفكار والشعور ببساطة! أشعر أني فقدت عفوية الكتابة لدي وتبقى الفكرة حبيسة رأسي -أضيء مصباح قراءة كتاب داء منتصف الليل: الدافع إلى الكتابة وحبسة الكاتب والدماغ المبدع- وااااو ويني عنه من أول؟؟؟؟؟؟
والآن، إلى تدوينة أخرى بعيدًا عن سرقة فقرات من رسائل مرسلة، اشتقت جدًا للكتابة هنا.
عودة قليلة للوراء، نعم إلى السنة الدراسية الماضية وبدايتها إذ كانت العودة الأكثر صعوبة بالنسبة لي، خصوصًا في أولها حيث تقاطعات متعددة في آن واحد ويلزمني مواجهة كل هذا وحدي. لماذا أتخذ من بداية السنة الدراسية علامة مرجعية في سجلات الوقت؟ أتذكر هذا الاقتباس: وأخبرت كل من يهمه الأمر بأنني سوف أسافر لمدة فصل دراسي كامل (لا يفكر أساتذة التعليم وفقًا للشهور، فالفصل الدراسي هو وحدتنا الزمنية.) #جغرافيا_الوقت
وخلال عام منذ تلك العودة حتى الآن -أكتب هذه التدوينة بعد نهاية الأسبوع السابع من العام الدراسي الحالي- تذبذبت كثيرًا من أجل الوقوف ثابتة مرة أخرى، وأرخيت على غير العادة يدي من كل شيء تقريبًا، فقدت رغبة التشبث وصرت لا مبالية أمام الكثير مما يعبرني، كنت أستيقظ وأنا أدفع نفسي دفعًا للقاء أيامي، وأكتب في دفاتر يومياتي كل حيرتي وأسئلتي وقوائم التذكيرات وأخرى للتنبيهات وواحدة إضافية للمحظورات وأخيرة لما أرغب في فعله دون تنفيذ يذكر، لم يكن وقوفي هذه المرة بالذات سهلًا أو سريعًا. جاهدت جهادًا قاسيًا وعلى جبهات عدة، ما كان مختلفًا هو أني ولأول مرة استسلم إلى هذا الحد! كنت كمن أرخى كتفيه يائسًا بائسًا مشكلّة كتلة مركزة من الإحباط. لم يكن هذا حالي طوال الوقت، لا على الإطلاق…لكن في مرات عدة خلتني هكذا. وسمحت لنفسي بعيش كل لحظة إلى أقصاها رغبة مني في التخفيف من التراكمات وما يليها من مواجهات.. كنت بلا مبالغة أردد: معليش يا مشاعل عادي مو شرط كل شي يكون بأحسن صورته الآن، فيه أولويات.. اوكي عدّي مشّي…. وما يعد فارقًا هنا، أن كل ما أعنيه هو شيء داخلي، لا يرى بالعين المجردة لكن كنت أغرق في وحله كل ثانية، وهذا ما يزيد الانتشال صعوبة!
لم أكن لأصل إلى ما عليه الآن لولا فضل الله سبحانه قبل أي سبب آخر، أدرك تمام الإدراك ومن قبل مؤمنة أن ما كتبه الله لي من كل ما كان لحكمة يعلمها وحده لكن في باطنها الخير لي كامنًا، محدودية تفكيرنا وقدرتنا البشرية قد لا تستوعب ذلك في أحيان عدة، إيماننا وسعينا الدؤوب للوصول إلى أفضل نسخة منّا وإن كانت بعد سقوط متكرر، وحدها لا تذهب هباءً منثورًا.
توقفت عن الكتابة هنا متعمدة وغير متعمدة، لم أرغب بتوثيق كثيف -هنا- لكل تخبطاتي ومحاولاتي للوقوف من جديد، أردت العودة وأنا مشاعل بنسختها الجديدة (المعدّلة والمزيدة). مشاعل التي تنغمس في تفاصيل يومية صغيرة لكنها مفضلة، هذه المتعة الصغيرة والتي يمكنني وصف أن أيامي قائمة عليها، فقدتها. لم أكن أتذوق المتعة في أي شيء حتى مما أفضّله، والعقل هنا ومحاولات التعقل قد تبدو سخافة.. لكن ما الذي يجدر بنا فعله؟
تركت الأمور تسير وفقًا لما تريده في معظم الأحيان= فوضى عارمة. ساءت في جهة وتحسنت في أخرى، كان كل شيء يبدو سطحيًا ظاهريًا لا أعيش أي لحظة بشعور صادق وعميق كما يجب، وهذا أسوأ ما يحدث لي أنا التي أغرق في تفاصيل لحظاتي، كنت أمثّل في مواقف كثيرة، رغبة مني لكيلا أفقد خط الرجعة تمامًا، بهذه الحيلة قاومت بعض الأحيان، إلى أن عدت قليلًا وبالتدرج وبلا شك تضمن ذلك الكثير من الانتكاسات، لكن المهم هو علمك التام بأن هذه انتكاسة مؤقتة وليس تصفيرة للعداد. كان تقدمًا بطيئًا جدًا يتبعه توقف لفترات طويلة، مع صوتي الداخلي للتذكير والمواساة أو الإحباط في بعض الأحيان.
تحسنت الأمور أخيرًا بفضل الله، ولعل أبرز مؤشر هو قدرتي على الالتزام بروتين – تدوينتي السابقة خير دليل- ثم التركيز على الأهم والمهم فقط، هذا ما قد يبدو بديهيًا لكن للأسف المشتتات كانت تفوز بالاهتمام مقابل الأولويات (محاولات هروب) لأن لا حيلة لتحمل أي شيء. عدت للقراءة المنتظمة، متابعة حفظي، ضبط كلًا من سعراتي الحرارية وساعات نومي وتناولي للقهوة وعدد خطواتي وشربي للماء ومؤخرًا إغلاق دوائر ساعتي، أخيرًا للترجمة وها أنا أعود للكتابة، وتصوير مشاهد الشروق والغروب المفضلة والتي توقفت عنها كثيرًا. ومن قبل، الوعي بما يستحق الالتفات إليه وما لا أكرمه بطرف عين، ما يأخذ من وقتي وما لا أعطيه فضلة ثواني! إدراك قيمة الأشخاص والأشياء والدروب والخيارات من حولي، لهذا والله أثر عظيم في قلبي وهذا ما كنت أفقده. وبينهما كثير، لكن لا حاجة للكتابة عنه -هنا-
الآن والآن فقط، يمكنني قول أني استعدت النسخة المفضلة والأفضل من مشاعل. ألا يستحق هذا الاحتفال؟
تبدو في ظاهرها صورة عادية لا تحتوي أيًّا مما يميزها أو يضفي عليها لمسة سحرية، لكنها بالنسبة لي تعني الكثير وقد تعمدت تأخير توثيق هذه اللحظة حتى لا تأخذني الحماسة أمام التأكد. استعادة قدرتي على فعل بسيط كتنظيم أسبوعي وقائمة مهام يومية يعني عودة جزء كبير من مشاعل أو بمعنى أدق تجاوز الكثير مما كان، الأمر أشبه بأخذ لفة كاملة ابتعدت خلالها عما أفضله والآن عادت خطواتي إلى أماكني المفضلة. لأن فعلًا كهذا رغم حبي له فقدت رغبتي تجاهه وكان يبدو ثقيلًا أقرب للمستحيل، اليوم أكملت شهرًا كاملًا..
تذكرت اقتباس: “طاف في دوائر لا تنتهي. أعطى نفسه أن تضيع.” ربما لا بأس من إعطاء أنفسنا خيار أن تضيع قليلًا شرط أن تطوف في دوائر لضمان عودتها 🌀.
🔸 مسرات صغيرة: الانتباه إلى التقدم والتغيرات الإيجابية تمامًا كملاحظتنا الدقيقة للتراجعات والسلبية.
يمكنني قول أني ملكة القوائم، أستطيع بكل متعة صنع قائمة لكل وأي شيء، ما يمكننا تخيله والأكثر ما هو غير خاضع لملكة الخيال، ودائمًا قوائمي لانهائية، لدي قائمة الاقتباسات *الأطول* بدأتها منذ عام ٢٠١٦. الصفحات الأخيرة من دفاتري عبارة عن عناوين عريضة وأسفل منها تعداد قد يطول أو ينكمش. وفي سنة خصصت دفترًا كاملًا لقوائمي فقط، لا أكتب به أي سطر دون رقم يسبقه وعنوان يعلوه، الآن وبدافع فوري دون تخطيط مسبق -تشير الساعة إلى الواحدة والثلث بعد منتصف الليل- أبدأ قائمة جديدة. فكرتها ببساطة أوثق فيها ما يزعجني أو ما أكره، هذا كل ما ستحتويه وقابل للمشاركة. أدشن قائمة المكروهات بالدافع وراء هذه التدوينة.
أعتقد بأن شكلًا من أشكال العقوبة في هذه الدنيا، على الأقل بالنسبة لي هو التكرار! قد يبدو هذا السطر غريبًا دون توضيح لأن ببساطة الحياة بأسرها ما هي إلا كومة من التكرارات، وفيه تناقض لشخص مثلي باله طويل. لكن حقيقة ما لا أطيقه منها هو ذلك النوع الذي لا أعرف كيف أصنفه، أتعلم حين تتعرض لنفس الموقف مع نفس الشخص يوميًا أو في فترات متقاربة؟ يتكرر المشهد بكامل تفاصيله وكلماته وبرتابة حد البلادة، كل شيء متوقع ومعروف.. تمامًا هذا ما أعنيه. وهذا الحال للأسف موجود وبكثرة، أعلم أنه في مرات كثيرة يكون الدافع لطفًا أو أملًا في عدم الإزعاج.. بصرف النظر عن الدافع، الأمر مزعج! معظم الأحيان أقاوم إصدار أي ردة فعل سوى الصمت. يزداد مثل هذا مع الأشخاص الذين نلتقيهم بكثرة، الأهل والصديقات والزميلات، من يجمعنا بهم المكان لفترات قد تطول، أبدأ بالتخمين فأهمس لنفسي: اليوم ستقول هكذا وعليّ الرد بهكذا، وفعلًا هذا ما يحدث، روتين قاتل في فقرات الحياة!
بعيدًا عن المجاملات والذوق والصمت الذي نلوذ إليه، هذه التكرارات ما هي إلا مشاهد باهتة “مكررة” وبها هدر للوقت وللطاقة ولاهتزازات الحبال الصوتية وللحروف والكلمات وكسر للتوقعات وإحباط للتخمين ولمحاولات تجربة أي جديد و و و…
مثلًا موقف يتكرر كل يوم لماذا تسمعني تعليقك الذي يستدعي تعليقي وهو بالضرورة ما نكرره بثبات كل مرة؟ لماذا كل هذا الملل بقول ما حفظناه لكثرة ما نكرره؟ مُشكلّين بهذا أدنى أنشطة الحياة جذبًا لإنسان.. مثال غير واقعي أو ربما واقعي لتوضيح ما أقصد: شخص بجواري سيشعل المصباح القريب منه فيقول لي: كذا النور تمام ولا يزعجك؟ لا تمام خذي راحتك… ثم تشعل المصباح يوميًا وتسألني لأجيب بنفس الكلمات. كل يوم كل يوم كل يوم! مع ملاحظة ثبات عناصر المشهد: أنا وهي والمصباح وفي الكواليس الضوء الصادر عنه بلونه الأصفر مستغربًا رتابة البشر.
لماذا؟ سيبقى سؤالًا عالقًا في حلق الأيام…ولك أن تتخيل بأني رغم كرهي الأصيل للتكرار، أنا معلمة.
كانت تصفني ماما بـ الباردة وذلك لأني أجهز كل شيء في الوقت الضائع، لا أتأخر ولكن لا أنجز قبل الوقت المحدد بفاصل زمني طويل، كانت ملاحظتها متعلقة أكثر شيء بتجهيز الحقائب أو غسل الصحون أو تقطيع السلطة أو الاستعداد للخروج وهكذا، بقيت ماما الوحيدة التي تصفني بذلك وكنت أعيد الأمر إلى ملاحظات الأمهات لا أكثر إلى أن ظهرت رحاب، سونيك في أيامي، ثم تكررت الملاحظة بشكل أو بآخر وقد تحوّلت في بعض الأحيان إلى وصفي بالهدوء، آخرها من فاطمة: مشاعل انتي تتكلمي عن اصعب اوقات في حياتك بكل هدوء، لو انا احكي عنك راح اكون متحمسة اكثر منك! وبالعودة إلى رحاب، في الحقيقة طالباتنا عندما ينتقلون من تدريسي إلى رحاب فإن الملاحظة الأولى التى أجمع عليها الجميع تقريبًا هي فرق السرعة! بين كلامي وشرحي وحركتي ورحاب *صوت ضحكة* ثم تعليق بعض الأشخاص المقربين. ملاحظة: لا يمكن بحال من الأحوال أن نسير أنا ورحاب بجوار بعضنا، يستحيل وهو أقرب للخيال منه لأي واقع، ولولا الخصوصية لشاركت عشرات المقاطع وهي تسبقني بما لا يقل عن خمسة أمتار، في كل مكان!
تعليق الطالبات بعد الانتقال.
مكنتني قراءة الفصل الأول من كتاب جغرافيا الوقت من تشخيص اختلافنا بدقة: نحن نختلف في الإيقاع- سرعة الحياة. والذي عرّفه الكتاب بـ: إن إيقاع الحياة هو تدفق أو حركة الزمن الذي يختبره البشر. وكلمة إيقاع مقتبسة من عالم الموسيقى، حيث الإيقاع السريع أو البطيء أو التأرجح بينهما، مسقطًا هذا المعنى على حياتنا أو الزمن الإنساني كما أسماه مؤكدًا بـ أن هناك فروقًا حضارية وتاريخية وفروقًا بين الأفراد في إيقاع الحياة. ثم توسع الكاتب في تفسير معناه ولكن على مستوى الدول والمجتمعات عازيًا إلى تأثير الجوانب الاقتصادية والصناعية ثم الطقس وأخيرًا تأثير ثقافة المجتمع أهي فردانية أم جمعية.
الفصل الأخير هو موجز ما تقدم لأنه تحدث عن الفرد بعنوان «إيقاع طبلتك الخاص: يمر الوقت بسرعات مختلفة لدى الناس المختلفين» يقول: بحاجة إلى الحذر لكي لا نبالغ في التعميم بخصوص الناس «السريعين» و «البطيئين» وكما هو الأمر بخصوص الثقافة، فربما يختلف إيقاع الشخص الواحد بدرجة كبيرة وفقا للوقت والمكان والعمل الذي يؤديه. ثم ألحق بقائمة من خلالها تقيّم نفسك، منها الاهتمام بالوقت المبين بالساعة وأنماط الكلام وعادات الأكل وسرعة المشي وقيادة السيارات وجدول المواعيد ووضع القوائم والطاقة العصبية والانتظار والتنبيه من الآخرين. حين انتهيت من قراءة القائمة ضحكت لأن جميعها بلا استثناء مررنا أنا ورحاب بمواقف نثبت من خلالها اختلاف إيقاع حياتنا جذريًا! مضحك، لماذا رحاب فقط؟ لأنها أكثر من عملت معه وعملنا مشترك ندرّس نفس المرحلة، إضافة إلى قضاء الكثير من أوقاتي معها سواء داخل أو خارج مقر العمل، فكانت مساحة ظهور الاختلاف واسعة جدًا، مما يسمح بملاحظته على أصعدة مختلفة. القائمة بيننا تطول وكذلك المواقف، حقيقة العيش مع شخص مختلف الإيقاع عجيب وغريب ويرافقه الكثير والكثير والكثيييير من الضحك الذي أساسه يعود إلى هذا الاختلاف. *أكتب وأتذكر وأضحك* حتى على مستوى الرسائل الصوتية، رحاب تقول: مستحيل اسمع لك صوت إذا ما كان مسرّع على 2x. أنا ورحاب لا نقف عن إرسال مقاطع خصوصًا في تيك توك وانستغرام لأصدقاء مختلفين بحيث أحدهم يمثلني والآخر هي، قبل كتابة هذه التدوينة ببضع ساعات أرسلت لي مقطع أضحكني مررة.
اعتراف خطير.
الجدير بالذكر، المرة الوحيدة التي قيل لي فيها: انتي دايمًا كذا سريعة؟ وحينها ابتسمت من التضاد العجيب، ملاحظة على غير العادة، كانت من طالباتي فقط عندما انتقلت إلى تدريس الفيزياء في المرحلة الثانوية مع مناهجهم غير النهائية، يبدو هي المرة الوحيدة التي كنت فيها أركض. الجدير بالذكر ٢: سجلت مؤخرًا Voice Over لعمل وكان تعليق التي طلبتها إعطائي ملاحظتها لخبرتها: اممم هو حلو بس انتي شوي بطيئة < ضحكت وأعدته حتى ضبطت السرعة المناسبة.
وهذه فقرة أظنها مهمة:
أختم أيضًا بهذه الفقرة وقد أرسلتها لها، بوصف يختصرنا في كل المرات التي عملنا فيها على أمر عاجل وحسّاس.. للأسف الزوج هنا أنا بينما المتحدثة رحاب:
ملحق بجزء من محادثتي مع رحاب وعاملي السرعة والبطء حاضران وبقوة -وما خفي أعظم-:
تعليقها على مقطع لها وهي تسبقني بمسافة طويلة.لم تنجح محاولاتي لزيادة سرعتي معها فقط هههههيبدو إحدى المحاولات نجحت!التعليق: لا تعليق!!!!معدل سرعة الإحساس الداخلي لا يتوائم مع الواقع 🙃هي السريعة مو أنا البطيئة! أو لا… إيقاع حياتنا مختلف ✌️تضيّع فرصة الاستماع لصوتي الأجمل!الخاسر الأكبر: رحاب
للتو عدت من زيارتي الأولى لبيت جدي بعد انتقالهم لمنزلهم الجديد، هناك ستستمر ذاكرتنا الجماعية الخاصة بنا -نحن قاصدي بيت العائلة الكبير- في نموها، إلا أنه المنزل الأول الذي ننتقل إليه دون جدي رحمه الله. وأثناء عودتي فكرت في كم البيوت التي قضيت بها عمرًا؟ بعيدًا عن منزل الجد الكبير، منزل العائلة، عشت في أربعة بيوت موزعة بين سنين عمري الـ ٣٢. موزعة دون قسمة منصفة، لم ننتقل كثيرًا بين البيوت وإن كان لي الخيار لفضلت البقاء في بيت واحد طوال العمر.
تتوزع ذكرياتي بينهم الأربعة في فترات زمنية مختلفة، لكن الإنتقالة الأخيرة كانت في ٢٠٢١ ليكون منزلًا تحت وصف (المؤقت) وهو كذلك حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها، الحديث عن البيوت حميمي وشاعري ودافئ، وحبي للبيوت الأربعة يتفاوت، بيت الطفولة عشت فيه منذ الولادة إلى الصف الرابع، ثم البيت الأحب لقلبي والأطول في عدد السنوات من الصف الخامس إلى السنة الثالثة في الجامعة، ثم قبل الأخير من ٢٠١٥ إلى ٢٠٢٠ والأخير المؤقت من ٢٠٢١ وحتى اليوم، يوجد بيت على هامشهم كلهم، غائب إلى حد النسيان وأعرّفه بوصفه ظل هامشي لا يدخل ضمن الحسبة.
البيت هو الوجود والركيزة الآمنة في هذه الحياة، حيث الاطمئنان والود والحب والأنس والذكريات، البيت دائمًا يشبه العودة وكل عودة ما هي إلا رجوع للبيت! البيت الحالي كما قلت مرتبط بالمؤقت وقد تسلب هذه الفكرة بعضًا من حميمية المكان وشكل العلاقة المكونة به، لكن سيبقى في نفسي له طابع خاص لتميزه، هذا البيت الأول الذي أكون مسؤولة عنه بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تعلمت الكثير وشهدت في حياتي من الأحداث ما الله به عليم والتي بالضرورة هي مرتبطة بتواجدي به حتى مع قلة السنوات.
وللبيت بفكرته الدافئة معاني عدة، هو مفردة واسعة تشمل البيت والسكن والأهل والحي والمدينة والدولة.. والأشخاص وغيرهم كثير، لذا يستحق الكتابة عنه فعلًا! الحديث عن الأماكن عامة والبيوت خاصة يطول ويتشعب ومفضل لكن كما قلت (المؤقتية) في بيتنا الحالي تؤجل الكتابة لأسباب كثيرة، منها أن الشعور المرافق شامل لا يقتصر على البيت فقط.
يتزامن هذا مع قرائتي لمقدمة كتاب جغرافيا الوقت وردت فقرة معنونة: علم نفس المكان قال فيها : إن الأماكن مثل الأشخاص لها شخصيتها المميزة.. كذلك الحال مع بيوتنا، نتقاطع هي تأخذ منا ونحن نتأثر بها. أو كما قال أورهان باموق: ”البيت مهم بالنسبة لي لأنه مركز العالم في رأسي أكثر من كونه جمال غرف وأغراض.”
قبل أسبوعين تقريبًا ذهبت وزينب إلى مقهى جديد، وفي غمرة جلوسنا بهدوء وبعد صمت لدقائق باغتتني بسؤال: عادي تجربي شي جديد لوحدك؟ نظرت إليها وقد رسمت على وجهي رد فعل عبارة عن خليط بين الابتسامة والاندهاش! ليس من السؤال إذ اعتدت عليه لكن زينب؟ يبدو أنها تحت تأثير أجواء المقهى. أجبتها بالطبع…
على هذا السؤال دائمًا تبدو إجابتي درامية وربما غريبة للسائل لأن ببساطة نحن لا نتشارك ذات التجربة، أتعرض بشكل أو بآخر لمثل هذه الأسئلة حين يعرف من أمامي أن لا أشقاء وشقيقات لدي. وهي إجابة عادية تناسب نمط حياتي، من الطبيعي لشخص نشأ في حال كهذه، لا يعرف المشاركة بشكلها الأمثل. وأعني هنا المشاركة بمعناها الواسع والذي يبدأ بوجود إخوة وأخوات.
الكثير من تجاربي كنت فيها وحدي وحالة المشاركة هي الطارئ في أيامي، إذا عدنا للوراء كثيرًا للطفولة واستكشافاتها وتجاربها.. أيضًا كنت وحدي. السندباد والأمواج والأبراج والحديقة المائية وجنغل لاند وعطا الله والشلال إلخ.. أغلب ذهابي لها وحدي، لكن هناك جزء مشترك خاص جدًا مع خالي تركي -يكبرني بعامين- فكنا نذهب بعض المرات سويّا أو رحلات المدارس وهي كثيرة بالضرورة. كما قلت أن أجرب وحدي، أمر طبيعي وفقًا للظروف المتاحة، وهذا لا يقف على غياب الإخوة والأخوات بل يمتد ليشمل الأقارب، أذ أن الحفيد التالي من الجهتين تفصلني عنه سنوات تصل إلى اثنتي عشرة سنة.
لذا نعم، الوحدة جزء أصيل من حياتي، قلت لزينب كل تجارب الملاهي والأماكن الجديدة في جدة كنت أخبر أهلي برغبتي للذهاب.. ثم نذهب، لكن التجربة كاملة أعيشها وحدي. وعادي يعني… لكن ليس الجميع يستوعب هذا.
تجربتي هذه لا علاقة لها في تصنيفي اجتماعية/ انبساطية أو انطوائية لكن يظهر تأثيرها في الجو العام الذي أفضل الجلوس/ التواجد فيه كما يتضح في خوض التجارب الجديدة، ما زلت أفضلها وحدي، بالتأكيد ليست بنسبة ١٠٠٪ لكن لا مشكلة لدي على الإطلاق من تجربة أي شيء وحدي وهذا عادة ما يحدث أو هذه طريقة تفكيري دون اجتهاد. ثم إن أعجبني أبدأ بمشاركته مع من أحب. في كل خطوات حياتي المهمة وخطواتي المفصلية، كنت وحدي. وأظنني لحد ما أبقي الآخرين على مسافة من تجاربي. والدتي حفظها الله استثناء من كل ما سبق، ليست ضمن سياق الحديث أصلًا.
النشأة هنا لها الدور الأكبر، تلقي بظلالها على كل شيء تقريبًا، تعلمت عيش كامل لحظاتي بأقصى ما تقتضيه الحالة وحدي، كما لا أتوقع ذهاب أحدهم معي في أي من مشاويري أقصد المهمة مثل موعد أو غيره، وقد يصل الحال إلى الإعتذار منهم إن لزم الأمر، لست متعودة على قيام أحد بمهمة عني / معي إلى حد عدم توقعي أو انتظاري لحدوث هذا. قد يُستغرب ذهابي إلى بعض المقاهي والمطاعم والسينما وحدي، لكن الأمر بالنسبة لي عادي ولا مجال للاستنكار أو جلب مشاعر معينة. ومن الجهة الأخرى، لأهلي وصديقاتي تواجد بارز ومهم في حياتي خصوصًا في السنوات الأخيرة لكن يستحيل أن يغطي ١٠٠٪ من أوقاتي أو تجاربي. وهذا من المواضيع التي أود الكتابة عنها باستفاضة، أشعر دومًا أن لدي تجربة خاصة تستحق المشاركة أو على الأقل الإسهاب في وصفها.
تذكرت سؤال زينب وأنا في محطة القطار، وقلت في نفسي: ها أنا أعيش تجربة جديدة وحدي وابتسمت.. لأن زينب على النقيض مني، علقتُ وأنا أرد على سؤالها -في المقهى- بعد طرحها لمثال نقيض عني: النشأة والتعود هذا كل ما في الأمر! ببساطة بسيطة جدًا.
أجلس الآن في مقصورة القطار وأنا عائدة من مكة إلى جدة، تبدو هذه الجملة مقتبسة من افتتاحية رواية روسية. حين حاولت تذكر القطار فيما قرأت لم يظهر لي إلا مشهد آنا كارينينا للأسف! < هذا فقط ما استطعت كتابته في القطار.
أردت تجربة قطار الحرمين مرات عدة ولكن ما كان يجعلني أتردد هي الخطوات التالية من الوصول سواء في مكة أو المدينة، لا أريد أخذ تاكسي < لماذا؟ لا أعلم! لذا عقدت صفقة مع سمية، وفعلًا اتفقنا على اليوم والتوقيت وبدأت بحجز مقعد مناسب، واجهت ورطة صغيرة أي المقاعد سيكون عند الشباك؟ هذا شرطي السابق في السيارة ثم الطائرة أنقله معي في أي وسيلة نقل، لابد من جلوسي بقرب النافذة وإلا -ربما- في هذه الحالة ألغي الرحلة إلى وقت آخر مالم تكن ضرورية. حجزت مقعدًا بعدما تأكدت من تحقق شرطي، ثم أرسلت الحجز لزينب قالت لي: المقعد اللي محددته عكس يعني القطار حيمشي على ورا ههههههه <لماذا الضحكة يا زينب؟ حسنًا لا بأس، حاولت تخيل الوضع وخفت أن أصاب بالدوار، هذه الغلطة ضريبة خبرتي الصفرية في حجز مقعد في قطار.
استيقظت صباح الأربعاء بالحماس المرافق لتجربة أمر ما للمرة الأولى، وحرصت على تخفيف حقيبتي وألا أعيش فكرة أني مسافرة لانتقال من جدة إلى مكة. لم آخذ دفتر يومياتي ولا كتاب أقرأ به لأني توقعت قصر الوقت وسرعة التنقلات، اكتفيت بالآيباد لأكتب فيه مسوّدات سريعة. أودعت سيارتي في المواقف، وتعجبت من سهولة الإجراءات دون اضطرارك للسؤال أو طلب المساعدة، ثم دقة التوقيت في تحرك القطار بالدقيقة.
أنا اعتدت استغراق ساعة في سيارتي بين جدة ومكة، الآن أصل في غضون ٢٠ دقيقة! إذًا أربعون دقيقة حُفظت من يومي، تجربة تستحق. المضحك في رحلة الذهاب لم أنتبه لوجود شاشة توضح أين وصلنا في مسار رحلتنا والأهم سرعة القطار، وهنا جن جنون فضولي أريد معرفة (السرعة اللحظية) للقطار، حاولت تحميل تطبيق ولم ينجح وعدت أحسبها ذهنيًا بعد وصولي بقانون السرعة المتوسطة، في رحلة العودة ارتوى فضولي إذ شاهدت الشاشة وراقبت الأرقام وهي ترتفع حتى وصلت إلى أقصى سرعة 300km/h.
لم يكن يومي مميز لتجربة القطار وحسب، بل لما تبع ذلك من جولة فريدة من نوعها بين حارات مكة، أنا التي لا أعرف من مكة إلا طريق الحرم، ذهبت وأخيرًا لما هو أبعد من ذلك. وأدركت جيدًا: أهل مكة أدرى بشعابها. وذلك بإشراف سمية، يمكنني إطلاق مسمى: مرشدة سياحية بأعلى رتبة ممكنة، أخذتني في جولة إلى أسواق مكة الشعبية وبين طلعاتها وحاراتها القديمة والمنازل التي سكنت فيها وعائلتها والجامعة والأحياء الجديدة وأخيرًا ختمنا جولتنا بمطل جديد في أطراف مكة القريبة من جدة، لا أتذكر اسمه الآن لكنه مطل جميل جدًا جدًا. كنت أتسائل سكان المدن غير الساحلية إلى أين يذهبون إذا ضاقت بهم الوسيعة؟ ما الذي يقابل البحر في المدن الساحلية؟ وعلمت أن الجبل يعطي تقريبًا نفس المفعول. ما أتذكره من أسماء: الشوقية/ الخانسة/ ريع الكحل/ بن خنفيس/ العتيبية/ طلعة الملقية/ شارع الحب… أردت الذهاب إلى خندمة وحاولت سمية لكن الغروب قد وصل فآثرنا الذهاب إليه في وقت لاحق بإذن الله. كانت جولة طويلة وسريعة وخفيفة ومتنوعة ومتعددة، ممزوجة بتجارب وقصص سمية الشخصية فزادتها بهاء. وثقت الكثير وأود مشاركتها لكن ما زلت أفكر كيف؟
أجلس في المقهي المفضل، ليس في مكانه القديم وإنما تعرض لإزاحة بسيطة. لا أتذكر بالضبط متى كانت المرة الأخيرة التي جلست فيها إلى طاولة من طاولاته قبل انتقاله الغريب هذا، ربما قبل ستة أشهر من الآن أقل أو أكثر بقليل. قبل انتقاله كان مغلقًا ولهذا توقفت عن موعد السبت الذي عادة ما أقضي ساعتي فيه. الآن عدت من جديد، أو لأني كنت بحاجة للذهاب إلى مقهى شرط أن يكون قريبًا. على كل حال، عودًا طيبًا.
جئت بنفس حاجتي السابقة للذهاب إلى مقهى، وقت مستقطع لرأسي وقلبي..كتبت أربع صفحات في دفتر يومياتي، على الرغم من قلة عدد الصفحات إلا أني أفرغت ما كنت أردده في نفسي لذا كان مختصرًا مركزًا. الأمر أشبه بصوت ضجيج يخبت بمجرد تحرك يدي للكتابة وبالوصول إلى آخر حرف، لا يوجد سوى الهدوء المرجو، نعم هذا التأثير السحري للكتابة معي.
عادة أحتاج بعد تعرض مكثف أي يكن هذا التعرض، إلى العودة للأصل ولما اعتدت عليه… الهدوء، هذا ملخص ضرورة ذهابي لمقهى أسبوعيًا في بعض الفترات، ودائما النصيب الأوفر ليوم السبت. بعض الفترات كان الصباح الباكر الوقت الأمثل لكن مع صيف جدة تغير إلى آخر العصرية قرب المغرب.
الأمر ذاته مع قيادة السيارة والفرفرة دون وجهة، الدافع لهما واحد.
هذه القدرة على التفكير في الأشياء البسيطة، في جوانب الروح، في هوامش الحياة.. هي أعلى أشكال الوعي، وإنه في هذه الحالة الذهنية التأملية الطفولية، التي تختلف تمامًا عن الحس السليم ومنطقه، نعرف أن العالم بخير. ــــــــ فلاديمير نابوكوف.