متى يصبح المكتب أكثر من قطعة أثاث؟

أكتب الآن وأنا جالسة أمام مكتبي الجديد، ولأول مرة. وصل بالأمس مع كرسيّ. كتبت هذه الجملة في دفتر يومياتي ظهر يوم الأربعاء، أي قبل ثلاثة أيام. بعدها دوّنت وصفًا لمشاعري في تلك الجلسة. قد يبدو إدراج كلمة مشاعر مع حصولي على مكتب وكرسيّ مبالغة، لكن الأمر بالنسبة لي أبعد وأعمق، وفكّرت حينها بكتابة هذه التدوينة… تدوينة عن المكاتب الشخصية. أمضيت الأيام التالية لذلك الظهر وأنا أسترجع كل ما يتعلّق بكلمة مكتب في حياتي كلّها، واستعنت بحقيبة ألبومات الصور القديمة. هل شملت كل شيء؟ سؤال لا أعرف إجابته، لكنني حاولت.

أول ما تبادر لذهني: ما أقدم مكتب أتذكره؟ ولم أرهق رأسي طويلًا، فهو موثّق بصور كثيرة. ذلك المكتب -إن كان يدخل تحت معنى الكلمة- هو أولهم. حصلت عليه في عمر الرابعة أو الخامسة، وبالأدق حين تعلّمت الحروف لأول مرة. أتذكره جيدًا، وأتذكر تفاصيل اختياره والحيرة التي سبقته، وسطحه العلوي كان مزينًا بالحروف الأبجدية والإنجليزية مع الأرقام، وطريقة إغلاقه السحرية فلا يشغل إلا مساحة صغيرة. كان مثاليًا لمتطلبات عمري حينئذ.

بعده جاء مكتب خشبي… كان صديقي من الصف الأول حتى الرابع ابتدائي. لم أجد له أي صورة، لكنه كان نسخة معدّلة عن طاولات المدارس وقتها. ولا أعرف هل كان اختياري أم اختيار أهلي؟ مع أنهم عادة يتركون لي حرية القرار. لماذا حصلت في المنزل على مكتب يشبه مكاتب المدرسة؟ سؤال ظل بلا إجابة.

الصورة من الانترنت*

ثم انتقلنا لبيت آخر، وحصلت على مكتب جديد، وكان نقلة في مستوى المكاتب… لأنه ببساطة مكتب كبار. كنت في الصف الخامس، وسعادتي به لا تُوصف. كيف أحصل على مكتب كبير وحقيقي وأنا في هذا العمر؟ لدرجة أن كل صورة له لابد أن أظهر فيها.

ها أنا في الصف الخامس أتصفّح موسوعة علمية ويظهر عليه اهتمامي المبالغ على شكل إكسسوارات مكتبية رتّبتها بعناية، وكنت أزيد عليها وأبدل باستمرار. وبالقرب منه -في طرف الصورة على اليمين- مكتب الكمبيوتر بكل ملحقاته. ولا توجد له صورة منفردة كذلك. يمكن تخيّل مشاعري وأنا أمتلك مكتبين بهذا الحجم وأنا ما زلت في الصف الخامس.

أوضح صورة للمكتب.
مكتب الكمبيوتر بجوار مكتبي.

بقيت غرفتي كما هي حتى المرحلة المتوسطة، حينها تحوّلنا من الأجهزة الثابتة إلى اللابتوب، فاختفى مكتب الكمبيوتر وبقي المكتب الأساسي حتى سنتي الثانية أو الثالثة في الجامعة.

ومع الانتقال إلى منزل جديد، ودّعت مكتبي القديم. وأثناء بحثي عن سلسلة “مكاتبي الشخصية” من أجل كتابة هذه التدوينة وجدت منشورًا في إنستقرام بتاريخ 4 أغسطس 2017:

انقطعت لفترة تقارب الثمان أشهر من تصوير مكتبي كما يبدو وهي المدة التي قضيتها دون مكتب – والذي بطبيعة الحال لم يكن سوى طاولة-. الآن أعود مرة أخرى بمكتب صغير وجديد لتصوير لحظات متفرقة من أحوال مكتبي دون تعديل أي شيء. فقط أتوقف للحظة أرفع كاميرا هاتفي وألتقطه ثم أكمل ما كنت أفعله. #فوضىمكتبيالصغير ١⁩

الصورة المرفقة مع النص السابق.

كان المكتب الصغير حينها ملاصقًا لمكتبتي. مساحته صغيرة جدًا، تبعًا لمساحة الغرفة الصغيرة أيضًا. لكن واضح مما كتبته في ذلك الوقت أنه كان جزءًا أصيلًا من غرفتي، رغم صغره… لكني انتظرته ثمانية أشهر كاملة. عشت معه من 2017 إلى 2020.

صورة تلت السابقة كتبت عنها: كتابة اليوميات المتراكمة #فوضى مكتبي الصغير.

ثم جاءت فترة الانقطاع. انتقلنا كذلك لمنزل جديد، لكن بلا مكتب هذه المرة. واستمر الوضع لأربع سنوات. لم يكن الأمر سهلًا على من اعتادت وجود مكتب خاص. استعضت عنه بطاولة الطعام، ولم يكن ذلك مريحًا إطلاقًا، كنت أتنقل بأغراضي من مكان لآخر. لماذا لم أحصل على مكتب؟ لسببين: الأول شعور “البيت المؤقت” الذي سبق وكتبت عنه. والثاني أن البيت الجديد كان أصغر البيوت مساحة، ووجود مكتب فيه كان رفاهية مؤجلة.

وأخيرًا -بعد غياب المكتب عن أيامي لما يقارب خمس سنوات- جاء المكتب الأخير، والدافع وراء كتابة هذه التدوينة، والذي أراه عوضًا عن كل ما سبق. بفضل الله حصلت على مكتب بسيط وجميل، أراه في عيني أجمل المكاتب وأفخمها 😆

حقيقة لم أكن أدرك من قبل أهمية المكتب في حياتي، أو أن له قيمة بهذا العمق. حصولي عليه الآن لم يكن مجرد امتلاك قطعة أثاث، بل تذكير بأن العوض يأتي، وإن تأخر. المكتب بالنسبة لي يتجاوز كونه قطعة خشبية، هو تجسيد لكل ما مررت به، وكيف تبدّل الحال من حال إلى حال. معنى عميق وخاص جدًا، أكبر من جملة: “حصلتُ على مكتب جديد”. أنا الآن أعيش بفضل الله ما كنت أصبّر به نفسي طويلًا. حالة العيش مع الصبر ليست سهلة، لكنها لا تدوم. الأهم أن يكون المرء واعيًا لتبدّل أحواله وانتقاله من مرحلة لأخرى… كيف كان، وما الذي عبر خلاله، وإلى أين وصل، أن يكون واعيًا بالأمل تماما مثل الألم..

غرفتي ما زالت تحتاج الكثير -كما يظهر في الصورة- حتى الستارة غير موجودة بعد، لكنها بوضعها الحالي، مواساة عظيمة من الله. وتذكير بأن الصبر لا يأتي إلا بالخير.

الحديث عن المكاتب يطول، وهذا ما لم أتوقعه من قبل، أتخيل لو أن أحدهم طلب مني الكتابة عن المكاتب؟! لم أتحدث بعد عن دورها الحقيقي، ولا عن طريقتي في التعامل معها، ولا عن الوقت الذي كانت تحتضنه، ولا حتى عن تلك المكاتب التي كنا نصنعها أنا وخالي ونحن نلعب، مكاتب بعيدة تمامًا عن شكل المكتب الحقيقي، إذ كنت أنا السكرتيرة الدائمة، وهو المدير العام بلا منازع.

المقام يفوق المقال، وما هذه إلا محاولة صغيرة لاختصار رحلةٍ بين مكاتبي، وما تركته في العمر من أثر. يضيق الكلام عن كل ما يجول في خاطري، وعن رمزية المكتب في نفسي، لكني ممتنة لله سبحانه وتعالى، والقادم أجمل بحوله وقوته.

موعد على بعد 28 سنة

المشهد الأول العالق في ذهني والمرتبط بحضور ماروكو الصغيرة، يعود إلى صالة بيتنا الأول، الأقدم. كنت أجلس، وأحيانًا أستلقي على الأرض، أو أتسلق الكنبة أمام تلفاز موضوع على أحد رفوف دولاب خشبي، ولا يمكنني بحال من الأحوال تجاوز الحضور الطاغي لأشعة شمس الظهيرة.

وبالعودة لتفاصيل المشهد الأول من جديد، كان الوقت حينها بالنسبة لي أقرب ما يكون إلى نهاية يومٍ دراسي، كنت أُخاله وقتًا متأخرًا، فمجرد انتهاء دوام الروضة كان يمنحني شعورًا بانتهاء اليوم كله، رغم أن الساعة في الحقيقة لم تتجاوز الثانية عشرة أو الواحدة ظهرًا.

بمجرد ذكر ماروكو الصغيرة يقفز هذا المشهد ليسجّل حضورًا ثابتًا. يُحضر معه تفاصيل مكان وزمان غارقة في القدم -بالنسبة لي- تتسرب إليّ حينها رائحة طبخ والدتي حفظها الله، وسيل من المقايضات والاتفاقات والعهود بعدم تناول ما جلبته معي من الروضة -إما حلوى أو تشبيس- إلى بعد تناولي الغداء.

كنت في الروضة، أي قبل التمهيدي، ربما كان عمري حينها لا يتجاوز الخمس سنوات. أذكر جيدًا أن مشاهدتي الأولى كانت قبل انفصال قناة سبيستون عن قناة البحرين بسنوات. حافظت على روتين بعد الروضة بثباتٍ متواصل، كل يوم فور عودتي وعلى عجل، لأنها كانت متزامنة مع بدء عرض ماروكو الصغيرة. بعض الأحيان بالكاد يسعفني الوقت لخلع المريول.

أعدت مشاهدتها لاحقًا مراتٍ عدة، وإلى فترة قريبة أُطالع أحيانًا حلقة على يوتيوب. ماروكو الصغيرة ووداعًا ماوكلي على وجه الخصوص، لديّ ارتباط وثيق بهما، أقرب إلى تكوّن مشاعر خاصة نحوهما، لأنهما أول ما أتذكّر من مشاهدات الطفولة، خصوصًا في عمر مبكر.

حجزت صباح اليوم مقعدًا في السينما لأرى ماروكو الصغيرة من جديد، ولكن هذه المرة بفاصلٍ زمني يقترب من ثمانٍ وعشرين سنة عن المرة الأولى!

تعمدت أن يكون الموعد قريبًا من وقت مشاهدتي الأصلي، وفي أقرب سينما من بيتنا الأقدم. حاولت بذلك تقليص الفواصل الزمنية والمكانية، كما اخترت الذهاب وحدي. فكان ظهر يوم الجمعة عند الساعة الواحدة والنصف.

في تلك اللحظات، فاض المشهد الأول بالحنين إلى مشاعل الصغيرة، وإلى الكثير، الكثير مما كان.

ذهابي اليوم لم يكن بدافع تقييم إخراج أو حبكة، ولا لأيّ مما يُلاحَظ عادة أثناء المشاهدة، حضوري لـماروكو كان أقرب إلى مصافحة بين مشاعل الصغيرة وكرتونها المفضّل. لم تكن مشاهدة عادية ولا قضاء ساعة ونصف، بل لقاءً بين زمنين.

وهنا حقًا، أعجز عن نقل ما شعرت به، أو عن وصف كمّ الأشياء التي استعادتها ذاكرتي.. شكرًا لهذه الإعادة الأجمل بلا منازع.

ذاكرة مكثفة

من يعرف والدتي، يعلم جيدًا أنها طباخة ماهرة تبارك الله. ومن يتابعني، يعلم أني مؤخرًا بدأت أقتبس هذه المهارة منها، أو لنقل: بدأت جيناتها تعطيني مفعولًا جيدًا، لكن بالطبع وفقًا لذائقتي ورغباتي في الوجبات.

أقول هذه المقدمة لأن ما أودّ الكتابة عنه حدث إثر طبخة أعدّتها اليوم. كانت تُحضّر بسبوسة ستأخذها معها لمن ستزورها. بسبوسة ماما لا يمكنك أمامها إلا أن تتذوقها. كنت في صغري وما زلت لا أميل للبسبوسة، لا أراها طبقًا يستحق أن يُنقل إلى بطني! وكنت أقاوم بسبوسة ماما، إلا أن آراء كل من ذاقوها دفعتني لتجربتها… فأدمنتها فعلًا. هناك من يطلبها منها عنوة.

كانت تعدّها، وكنت بجوارها أتحدث معها، هذا المشهد الذي يتكرر بعدد سنوات عمري: ماما تطبخ وأنا إلى جوارها. يكاد يكون أكثر اللحظات تكرارًا في رأسي، حتى مع تغيّر المطابخ وتعدّدها، يظل ثابتًا ومفضّلًا للأبد. وما هذا اليوم إلا حلقة تُضاف إلى سلسلة ممتدة.

أدخلتْ البسبوسة إلى الفرن، ثم أخرجتها ساخنة وسكبتْ عليها علبة من الحليب المكثف. إلى هنا، كان الأمر بالنسبة لي مجرّد خطوات اعتيادية. ولسبب ما، مدّت إليّ ماما ما تبقى في العلبة. هنا بالذات، أعادتني إلى عصر يوم ما في بيتنا الأول، حين ذهبت إلى البقالة المجاورة محاولة تجربة شيء جديد.

نعم، يبدو أن عادة التجريب قديمة ومتأصلة في نفسي. رأيت حينها علبة معدنية صغيرة، عليها صورة طفل يمسك بها ويرفع رأسه، في دلالة على شرب ما بداخلها. “أمم، أعطيني هذي العلبة!”


أتذكّر أنني لم أصبر حتى أصل إلى المنزل الذي لا يبعد سوى دقيقة بأبطأ حال، فتذوّقتها فورًا. أعجبتني حلاوتها الطاغية، لكن كان هناك طعم جعل وجهي يتكرمش. ذهبت إلى والدتي لأسألها: “ما هذا؟”

قالت: “مشمش؟ ذا حليب، بس مكثّف.” “إيش يعني مكثف؟” “يعني ثقيل شوي، شوفيه كيف ثقيل صح؟” “أمم، صح.”
حدث هذا الاكتشاف قبل أن أعرف القراءة، وإلا لما أخذته من الأساس، لأني والحليب في علاقة معقّدة.

بحثت في النت حتى وجدت صورة العلبة بشكلها القديم الذي أعنيه.

أحبّ آلية عمل الذاكرة، وكيف تجعل من تفصيلة صغيرة علامة مرجعية لمشهد كامل. أخذت العلبة من ماما، وأخرجت ملعقة لأتناول ما تبقّى من الحليب العالق في جدرانها. في تلك المرة الأولى، كانت العلبة صغيرة. هذه المرة كبيرة. لكن رغم هذا الفرق، استعاد رأسي المشهد الأول كاملًا. الطعم، الحركة، الوقفة فجأة، شمس العصرية، دهشة الكثافة والسكر، وصدمة أنه… حليب!

ولأن ماما من مدت إليّ العلبة، ولأجل هذه التفاصيل، تناولت ما تبقى منها.

على الهامش:
حاولت لعق ما تبقى بسبباتي وجرحت، تمامًا كما كنت في طفولتي وتعليمات ماما الاستباقية، إلا أنها لم تقترح أيًا منها اليوم. < أكتب التدوينة بسبابة تلفها لصقة جروح تضمد ذكريات عمر بأكمله.

بصمت.. حتى لا تعرف جدتي

جذورًا من جنوب غرب المملكة، وانتقالًا إلى غربها، وانتهاءً بجنوب شرق آسيا، هذا ما كنتُ أفكر به وأنا في الطريق إلى مطعم سوشي في عزّ القايلة -كما يقولون- بناء على طلب فريق البنات في العائلة.

بالعودة إلى بداياتي مع السوشي، كنت أرفضه رفضًا قاطعًا، حتى أقنعتني ذات يوم زينب وبالتحديد سنة 2018 إذ ما زلت أرى علاقتي به حديثة عهد. أقنعتني لأن المطعم في أساسه كان لذيذًا في كل الأطباق التي كنا نطلبها (P.F. Chang’s) من هذا المدخل، ومع شرط أن يكون مطهوًّا جيدًا، قبلتُ التجربة! ثم تقريبًا يعني أدمنته، ولكن بقيت على مطعم واحد وبطلب واحد فقط.
منذئذ وحتى تحديث أخير -أيضًا عن طريق زينب يبدو أنها مهكرتني- انتقلنا إلى (Ashi sushi) في الحقيقة، الأخير بالنسبة لي يتفوق بمراحل، وعليه ثبّتُ طلبي كما أفعل عادة: كرانشي شرمب و كريزي كراب، ولا شيء على الإطلاق سواهما.

جميع أفراد عائلتي من الجيل الثاني يرفضون قطعًا التجربة، إذ يظنون أنهم سيأكلون طبقًا نيئًا! وطبعًا لا مجال حتى للتفكير في المحاولة مع الجيل الأول. لذا توجهت إلى الجيل الثالث – نحن الحفيدات – مع أن بيننا أجيالًا (بينيّة)، وأنا بطبيعة الحال من الجيل الأقدم. المهم، هذه الأجيال يسهل تهكيرها، مثلما حصل معي وزينب.
كنت في البداية أحدثهنّ عنه حتى رغبنَ يومًا في تجربته. وعليه، عزمتُ بعضهن. كانت في البداية كمكافأة لإحداهن، لكن النتيجة؟ سُحرن، تمامًا كما حصل معي أول مرة. واتفقنا على تكرار التجربة مرارًا، شرط أن تكون معي وهذا ما حصل فعلًا، كان شرطًا للنكتة، لا أكثر. < لست ديكتاتورية تقريبًا..

أنا نسيت موضوع الاتفاق، لكنهن لم ينسين، ذهبنا مؤخرًا بطلبٍ منهن، خرجنا الساعة 1:30 ظهرًا وشمس جدة لا تمزح على الإطلاق، والمشوار طويل لأن الفرع الأقرب أُغلق، لكنه ببساطة يستحق عناء السفر إليه، يستغرق المشوار قرابة الأربعين دقيقة. أخذتني هواجيس الطريق كثيرًا: أين وكيف بدأ السوشي؟ ثم تطورت الحالة وبدأت أتخيل خريطة العالم أبحث فيها عن خيوط تربط بين السوشي وبيننا، نحن في هذه السيارة الصغيرة وهي تشق طريقها في غرب شبه الجزيرة.
ثم أضفت عامل الزمن إلى المكان، ماذا لو التقيت أحد أجدادي من أي جيل قديم؟ ونحن على وجه الخصوص لدينا سفرة زاخرة بالأطباق غاية في اللذة والتنوع. كيف أخبره بأننا في لحظة غادرنا كل شيء واتجهنا نحو السوشي؟ ماذا عن المرسة والحيسية والمغش؟ هل قصّر السمك المكشن في شيء؟
والحفيدات صعّدن الأمر قليلًا، وبدأن أمامي يظهرن مهارتهن في استخدام Chopsticks في حين أني اكتفيت باستخدام الشوكة من باب حفظ هيبة الجيل الأقدم -لا أعرف كيف استخدمها-.

وصلنا وطلبنا وتخمنا ثم عدنا، بصمت إلى حد ما، في محاولة لمداراة ما هو قائم وطريقة نعتذر بها لأطباقنا اللذيذة أو على الأقل حتى لا تعرف جدتي🤫.

33

بهدف بدء إجازتي وأول جمعة في السنة الهجرية 1447هـ ذهبنا أنا ووالدتي إلى المسجد الحرام للاستماع إلى خطبة الجمعة، كانت خطبة جميلة مناسبة للظرف الزمني كما هو متوقع.

صدفة أمسكت بهاتفي وإذ بالتاريخ 27 يونيو! ابتسمت ثم أدركت أنني لا أستطيع إضافة رمزية لبداية أبلغ من تلك اللحظة وأنا في الحرم.

ومن باب المحافظة على عادة كتابة تدوينة في يوم 27 يونيو كتبت هذه الشذرة، لدي الكثير مما أظنني سأفضل قوله لاحقًا، عن الوصول إلى عمر الثلاثة والثلاثين إن شاء الله.

اللهم أني أسألك من خيري الدنيا والآخرة وعمر هانئ سعيد.

ذكرى بيضاء

فور دخولي إلى المدرسة صباح اليوم، وأنا أحمل كوبَي قهوة لي ولرحاب في طريقي إلى البصمة، بدأت المشاهد والأصوات تتداخل في رأسي، عائدة بي سنوات إلى الوراء. يعجبني كيف تبقى اللحظات الأولى حاضرة في ذاكرتنا، وكأنها تشكّل علامات فارقة تؤثر في تعاطينا مع الأمور، وكيف تختار ذاكرتنا أحيانًا مشهدًا عابرًا لا يتعدى بضع ثوانٍ لتُخلّد فيه معنى كاملًا.

كانت الساحات، والممرات جميعها، وحتى غرف المعلمات مزدانة بصوت التكبيرات. وما إن سمعتها، لا سيما في صباح المدرسي، حتى عاد إلى ذهني مشهدٌ قديم: مشاعل الصغيرة جالسة إلى طاولة صف الروضة، حين طلبت منهم المعلمة أن يلتزموا الصمت إنصاتًا للتكبيرات، تمهيدًا لشرح معانيها الجليلة.

لا أتذكر على وجه التحديد، هل كان ذلك مدخلًا لدرس عن الحج؟ أم أن المشهد تزامن فعلًا مع أيامه؟ لكنني أرجّح الثانية. حينها كانت المصافحة الأولى مع مفهوم الحج، وما زال ذلك المشهد يلوح في ذاكرتي بلونه الأبيض، كذكرى نقية لا تعكّرها السنوات. 

منذ ذلك اليوم، لم أسمع التكبيرات مرة دون أن يعود ذلك المشهد إلى ذهني.

مغادرة المؤقت: بدء حكايا البيت الخامس 🏠

يقول أورهان باموق: البيت مهم بالنسبة لي لأنه مركز العالم في رأسي أكثر من كونه جمال غرف وأغراض.

كتبت تدوينة سابقة (مخبأ للذاكرة، جديد) اختصرت فيها بعضًا مما يجول في خاطري عن البيت، هذا المكان الأثير، الذي يحظى بالنصيب الأوفر من تفضيل الأماكن في حياتنا.

قلت آنذاك:

عشت في أربعة بيوت موزعة بين سنين عمري الـ ٣٢. موزعة دون قسمة منصفة، لم ننتقل كثيرًا بين البيوت وإن كان لي الخيار لفضلت البقاء في بيت واحد طوال العمر.
تتوزع ذكرياتي بينهم الأربعة في فترات زمنية مختلفة، لكن الإنتقالة الأخيرة كانت في ٢٠٢١ ليكون منزلًا تحت وصف (المؤقت) وهو كذلك حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها، الحديث عن البيوت حميمي وشاعري ودافئ، وحبي للبيوت الأربعة يتفاوت، بيت الطفولة عشت فيه منذ الولادة إلى الصف الرابع، ثم البيت الأحب لقلبي والأطول في عدد السنوات من الصف الخامس إلى السنة الثالثة في الجامعة، ثم قبل الأخير من ٢٠١٥ إلى ٢٠٢٠ والأخير المؤقت من ٢٠٢١ وحتى اليوم، يوجد بيت على هامشهم كلهم، غائب إلى حد النسيان وأعرّفه بوصفه ظل هامشي لا يدخل ضمن الحسبة.

واليوم، بفضل الله وبعد طول انتظار، انتهى الوضع المؤقت! جملة بسيطة، لكنها تستحق احتفالًا عظيمًا والحمدلله. انتهاء المؤقت يعني بالضرورة انتقالًا إلى البيت الخامس، لكنه أيضًا أبعد من مجرد انتقال مكاني، بل مغادرة لحالة كاملة ظلت تلقي بظلالها على أدق التفاصيل.
قلت فيما سبق:

وللبيت بفكرته الدافئة معاني عدة، هو مفردة واسعة تشمل البيت والسكن والأهل والحي والمدينة والدولة.. والأشخاص وغيرهم كثير، لذا يستحق الكتابة عنه فعلًا! الحديث عن الأماكن عامة والبيوت خاصة يطول ويتشعب ومفضل لكن كما قلت (المؤقتية) في بيتنا الحالي تؤجل الكتابة لأسباب كثيرة، منها أن الشعور المرافق شامل لا يقتصر على البيت فقط.


المؤقت لم يكن مجرد وصف للمكان، بل لطريقة العيش، لأسلوب التفكير، لكيفية التعاطي مع الحياة نفسها، وخاصة التفاصيل المرتبطة بالبيت. أسوأ ما في المؤقت أنه لا يملك حدًا واضحًا، لكنه رغم ذلك يفرض حضوره على تفاصيل أيامك. المؤقت حين يتجاوز المكان ليصبح شعورًا عامًا، فإنه يلتهم العفوية والحميمية، يجعلك أشبه بالمسافر أو الزائر، المكان مكانك، لكن شعورًا ما يحول دون اكتمال الألفة.

الانتقالة ما زالت طازجة جدًا، لكن لا يمكن تجاوزها دون توثيق. ولأول مرة في حياتي، أجرب جيرة الأقارب، عالم مختلف وجميل! اشتقت للمساحات الواسعة، لركن مكتبة خاص، ولتفاصيل كثيرة بينهما…

ما هذه التدوينة إلا محاولة توثيق مختصرة جدًا، تلويحة أولى للعالم من جديد

نسج الهدوء

مدخل:
دائما أرى من البدايات الزمنية فرصة لجعلها بداية فعلية لأمر ما، وهذا ما حدث معي في مطلع 2025. إلا أن هذه البداية كانت أقوى، إذ تزامنت مع مرحلة تشافي حقيقة عدت فيها إلى مشاعل التي لطالما عرفتها. أحمد الله على قدرتنا على التجاوز والتخطي والبدء من جديد مستقرين هانئين هادئين بعد ركض محموم ومتصل.

كتبت في أول صفحة من دفتر يومياتي: الهدف الأساسي من هذا العام: التركيز – الهدوء – الاستغراق – التروي – البطء – السكينة. أردت أن يكون عام 2025 عامًا للتركيز، للتمعن، للتأمل، للوتيرة الهادئة، للروتين، وللأعمال البطيئة أو التي تستدعي جمع كل ماسبق. أريد أن أجمع ذهني في كل مرة لأمر واحد فقط، وعند انشغالي بشيء ما، أمنحه كامل انتباهي، دون مقاطعات أو التنقل بين مهمتين في آن واحد. بدأت ذلك بتناول الطعام إن كنت وحدي دون هاتف أو تصفح لأي تطبيق أو مشاهدة نتفليكس، فقط أنا ووجبتي أتأمل كل لقمة في طريقها إلى مستقرها الأخير. كذلك أقرأ كتابًا واحدًا في كل مرة ما لم تستدعِ الحاجة غير ذلك، وسأحاول مقاومة الرغبة في تعدد القراءات – لا بأس. #فاصل: بالمناسبة، حظيت مؤخرًا والحمدلله بمجموعة عناوين كتب ولا في الأحلام! 

في مناقشاتي وحواراتي، أستمع وأركز أكثر. حين أقود السيارة، خففت قليلًا من عادة الاستماع لشيء ما، لا أستطيع التوقت تمامًا ولكن قللت ذلك. وبالطبع كتابة يومياتي أكثر، خصصت دفترًا أشبه بصندوق امتنان، أسجل فيه ما أمتن لله عليه في يومي كاملًا، وآخر للأفكار الطائرة. والآن أكملت شهري الأول وأنا أدوّن يوميًا قائمة قصيرة بأبرز مواطن شعور الامتنان في يومي، وهذا الالتزام وحده يكفيني ويعزز شعورًا لطيفًا كما يجعلني أنتبّه لما أعبر خلاله في يومي من جمال ونعيم، والالتفات إلى النعم خصوصًا تلك التي اعتدنا عليها.

أخيرًا، عدت للتطريز ولكن بشكل مختلف، لفكرة أردتها منذ سنوات، وهي اختصار يومي بتطريز رمز واحد (هايلايت) لكل يوم، الفكرة ممتعة وتدعم تركيزي وملاحظتي وتأملي. عمومًا، أحب الأعمال اليدوية لأن شرطها الاتزان والهدوء والتمعن والغرق! التطريز سيدهم جميعًا وملك الهواجيس بعد المشي والاستحمام وغسيل الصحون وقيادة السيارة < دواعي الهواجيس. 

قراءات شهر يناير:
كما يظهر، كانت مدخلًا لموضوع الطعام، باستثناء رواية “قاموس الكلمات المفقودة” التي لم أكملها بعد إلى وقت لاحق بإذن الله.لم أعتد على حصر قراءاتي ولكن يبدو ستكون عادة جديدة لهذا العام، الهدف منها تذكير نفسي بأنه رغم كل الازدحام الذي أعيشه في أيامي، ما زال هناك متسع.

تقييم للشهر الأول:
بالنسبة لصندوق الامتنان كما قلت، هو الأكثر التزام وتفعيل من بين الأفكار، كتابة يومياتي تحتاج إلى مزيد من الوقت والانفراد والكتابة، الأفكار موجودة في رأسي لكن أنشغل عن كتابتها بكامل شكلها وأكتفي ببضع كلمات غارقة في الإيجاز، التطريز لم ألتزم بعد إلا بيومين تقريبًا ولكن لا بأس لأن تنفيذ الفكرة في أساسه بدأته متأخرة، منذ 18 يناير. بحاجة للانتباه أكثر من أجل تحقيق أهداف التركيز والانتباه وعدم التشتت.


مخرج:
في خضم تسارع الحياة بكل تفاصيلها، أجد نفسي في حاجة ماسّة إلى نقيض ذلك. ومن حق نفسي عليّ أن أسعى لتحقيق هذا الهدوء.

القراءة الأولى: كحل وحبهان

-1-
يقول عمر طاهر:

سألتني أمي عما أحب أن يكون موجودًا على مائدة الغداء. تحديد الصنف يمنحها طمأنينة ما. يُغلق باب الحيرة ويفتح لها باب التجويد والإبداع. يُسهل مهمتها ويمنحها الحماس الكافي لعمل المطلوب أيًّا كان. #كحل_وحبهان

وأقول أنا:

أعدت قراءة الفقرة لأنها موجز عن أيامي ووالدتي حفظها الله، تزين يومي بسؤالها (يوميًا) عما أرغب في تناوله، وللغداء بالتحديد خصوصية عالية، أخبرها بعض الأحيان عن حيرتي حد عدم قدرتي اقتراح أي صنف لأجدها تنتظرني بقائمة على أقل تقدير تحتوي خيارين: أنا بقولك وانتي اختاري؟

تتعمد تعداد أصنافي المفضلة، ثم تردف هذه العادة باتصال عند اقتراب موعد دوامي تطمئنني بأن غداء في انتظاري، أعلم جيدًا أنه بالضرورة جدًا وبلا مجاملة، هو طعام لذيذ لذيذ لذييييذ!!!

إن كنت سأختصر حب والدتي لي وهذا غير معقول، حتمًا سيكون لطبخها وطعامها فائق اللذة، هذه لغة حبها التي تجيدها لدرجة تجعل من بعدها مجرد (كومبارس) في عالم الطبخ.

وهذا الشأن مما أقف أمامه عاجزة عن قول حرف واحد، ماما يفوقني حضورها في حياتي ويسحبني إلى حدود الصمت.. حفظها الله ووالدينكم ورزقنا برهم ورضاهم.

قراءة أولى: الأستاذ والمجنون

قراءة الفصلين الأولين من كتاب الأستاذ والمجنون: قصة القتل والجنون ونشأة معجم أكسفورد للغة الإنجليزية، كانت كافية لترك الكتاب جانبًا والبدء في البحث عن المعاجم الإنجليزية لدي، ولي معها قصص وذكريات طويلة، للأسف وضعها في مكتبتي محزن وصعب لعدم وجود مساحة كافية، رغم حبي الشديد لها إلا أن الكراتين الجانبية تحتضنها.

لست متأكدة من أن ما وصلت إليه هو كل ما أملكه، لكن أعتقد على الأقل هذا ما تبقى لي من مكتبتي القديمة.. هناك بعض معاجم بالحجم الصغير جدًا، من شبه المستحيل الوصول إليها. وهذه الصورة تختزل سنوات من حب الاقتناء والاطلاع على المعاجم. حاولت تذكر أقدمهم وأظنه من مكتبة تهامة في شارع حائل كنت حينها في المرحلة المتوسطة وما دفعني لاقتنائه كتب عليه: Children’s thesaurus. ثم مكتبة العبيكان في فرعها القديم بمجمع العرب وآخر بناء على توصية من تيتشر سميرة عندما كنت في الصف الثالث ثانوي، الحقوا فيه معجم رهيب عليه خصم في جرير! أتذكر أني حصلت عليه ب٨٠ ريال بدلًا من ١٥٠ أو أرقام حول هذين السعرين، ثم مكتبات متفرقة وبعضها من أمازون مؤخرًا.

وحبي للمعاجم قديم، وباللغتين العربية والإنجليزية لكن حصرتها هنا على الأخيرة لأن الكتاب يتحدث عنها. أعود مرة أخرى، أقدمها منذ أن كنت طالبة في المرحلة المتوسطة وآخرها مع دراستي لبكالوريوس اللغة الإنجليزية والترجمة، وكل معجم يأتي بقصة ودافع جديد للاقتناء، تارة أحادي اللغة وآخر ثنائي، وهناك ما هو لاستخدام معين وهكذا. لا أستطيع بحال القفز تجاوزًا لقسم المعاجم والقواميس في أي مكتبة، سحر حلال لا مثيل له.

ولا أنسى هنا جمال مقرر علم المعاجم Lexicography رغم صعوبة مذاكرته وإسهابه في التاريخ، إلا أني قررت الاحتفاظ بمذكرته إلى بعد التخرج.

هنا قاموس المشاعر، قاموس للكلمات التي لا وجود لها للتعبير عن مشاعر موجودة بالفعل!

وبالعودة للقراءة، تذكرت بأني شاهدت الفيلم المقتبس عن نفس الكتاب The Professor and the Madman والذي أظنني شاهدته سنة 2019، على كل حال.. متحمسة لإعادة مشاهدته فور الانتهاء من القراءة.

أخيرًا: للمعاجم على وجه الخصوص حب خاص، يدرك تفاصيله من أصيب له دون أي حب آخر متعلق بأي علم من علوم اللغة.