قراءة ثانية: جذر نفسيّ

في إشارة صريحة إلى أن كل سلوك مرتبط بعامل نفسيٍّ يعود في أساسه إلى شرارة أوقدت فتيله، خصوصًا إذا كان في شكل حذر مبالغ فيه أو خوف أو قلق، يزداد الأمر تعقيدًا مع التفاصيل الدقيقة جدًا، إذ لم يُخلق الإنسان بطبيعته ليواجه هذا الكم من التوجس الذي يلاحقه دون مسوّغ جليّ.

في الفصل الأول من كتاب الأستاذ والمجنون، ذُكر خوف الطبيب ماينور غير المبرر من الإيرلنديين، ومداومته السؤال لمن استأجر منها غرفته عن احتمالية وجود أيٍّ منهم.

أدلت السيدة فيشر للشرطة: كان دكتور ماينور يخاف بوضوح ورعب من الإيرلنديين. اعتاد السؤال مرات غير معدودة ما إن وجد لديها أي خدم إيرلنديين يعملون في المنزل أو لا، وإن وُجدوا يطالب بفصلهم من العمل. ألديها زوار أو نزلاء إيرلنديون؟

في البداية، أوضح للقارئ، في سياق حديثه عن مرضه دون تفصيل، قلقه وتوجسه المستهجن من الإيرلنديين. ألقى بهذه التفصيلة المربكة عن غرابة شخصية الطبيب، ليعود ويذكر جذرها بإسهاب في فصل لاحق.

الجانب الثاني للمعركة الذي ربما يكون مهمًا لفهم التوصيف المرضي المحير لماينور يتعلق بجامعة بعينها لعبت دورًا في القتال: الإيرلنديين. نفس الإيرلنديين الذين شهدت مؤجرة غرفة ماينور اللندنية بأنه يخاف منهم لدرجة عجيبة.

هذا التوجس غير المبرر من ماينور يكشف عن مدى تعقيد العلاقة بين الصدمات النفسية والاضطرابات العقلية التي قد تنعكس على السلوك البشري بطرق غير متوقعة. حالة الدكتور ماينور ليست مجرد حالة فردية لشخص يعاني من الخوف، بل هي صورة مصغرة للصراع الداخلي بين الماضي المؤلم والواقع الحاضر. ولم يكن الخوف هنا سوى مثال على كيفية ظهور هذه الصراعات النفسية بأشكال متعددة، تظهر في تصرفات تبدو غريبة وغير مبررة. لكن الحقيقة تكمن في أن جميعنا معرضون للصدمات النفسية بدرجات متفاوتة، والخلاص منها لا يتحقق إلا بوعيٍ قادر على مواجهة الجذور، وفهم التأثيرات، وكسر دائرة الألم النفسي التي قد تقيد الإنسان دون أن يدرك.

في ضوء كتاب ومقال

أقرأ الآن كتاب الضجيج: تاريخ إنساني للصوت والإصغاء. ما زلت في الفصل الثامن من أصل ثلاثين فصلًا، سيكون كتاب ماتع لمن يهتم بموضوعه ومحتواه، وهنا لابد من ذكر ملاحظتي بأن جميع العناوين التي حصلت عليها مؤخرًا وأقصد بمؤخرًا معرض الكتاب بجدة في دورته الأخيرة 2023 وما سبق ذلك بفترة وجيزة، كانت عناوين خالية من الأدب وغارقة فيما أحب من مواضيع، ركيزتها الفيزياء واللغة ثم ما بينهما، من صوت وضوء وتقنية وتطبيقات تواصل اجتماعي وعلم اجتماع وعلم نفس وبعضًا من الفقه والبلاغة، عامة تغلب عليها العلوم.

أعود إلى كتاب الضجيج مرة أخرى، طرح المؤلف ذكي جدًا وجاذب وماتع، لولا كثرة انشغالي لأنجزت قراءته في فترة أقصر، حقيقة لم أتوقعه بهذه الدقة والتفاصيل والجمال والتوسع و التشعب، تطرق خلال تفصيله في حديثه عن الصوت إلى اللغة والكتابة والقراءة والشفاهية وتاريخ تطورهما وتأثير كل منهما على الآخر، وكيف تنقسم الحقب التاريخية بين الأمم السمعية التي تعتمد في نقلها على الشفاهية ومنها الصوت، وأخرى تعتمد على الكتابة فكانت الصورة. قبل بدء قرائتي لكتاب الضجيج كنت أقرأ كتاب الصمت في عصر الصخب وهو كذلك بشكل أو بآخر يدور حول ذات المواضيع، وهذا التزامن الذي يبقيني خلال فترة قصيرة أدور في فلك موضوعات متشابهة يعجبني خصوصًا في المواد التي لا أتعمدها مثل مقالات أوحلقات بودكاست أو كتاب آخر.

اليوم صباحًا، لفتني عنوان لمقال صوتي في تطبيق معنى: نحو تشسيع الإحساس بالعالم. اخترته مع توقعي بإغلاقي له في الدقائق الأولى تخمينًا لصعوبة ملائمة مزاج الصباح، لكنه فاجئني، جميل جدًا! < فاجئني أي جعلني أندهش وأرفع حاجبي وأعيد سماع جزء من النص مرة أخرى، لأنه في طرحه وكأنه مرفق أو ملحق بكتاب الضجيج. أعجبني إلى حد استمراري في سماعه حتى بعد وصولي إلى مكتبي وبعد ذلك عدت واستمعت إليه مرة أخرى في طريق عودتي من المدرسة.

مقالات معنى عميقة وتفصيلية تروي فضول كل قارئ يبحث عن (معنى) كامن وراء علم أو مجال أو موضوع يفضله. مما كان ملفتًا لي في كل من الكتاب والمقال أنهم عرجوا باتفاق المعنى على أهمية الصوت ومدى تأثيره ومنه إلى الاستماع والإنصات، وأن الأمة الإسلامية في ثقافتها تولي السماع أهمية كبرى متمثلة في الإنصات إلى النص القرآني بهدف الفهم العميق لمعناه ومن ثم اتباعه. ومنه إلى تأثير الطبقة الاجتماعية على سماع أفرادها وبالطبع سيرتبط هذا بطبيعة أعمالهم وأورد مثالًا عمال المصناع واعتيادهم على أصوات الآلات المرتفعة، جاء سؤال بمعناه يقول ما حالهم بعد مغادرتهم إلى بيوتهم واختفاء صوت الآلات؟ وتعرضهم للضجيج لفترات طويلة يؤثر سلبًا على حاسة السمع، نصًا: ممارسة التناصت سيجعلنا نتأمل في ما تسميه المصانع الرأسمالية النهمة بـ موسيقى التنمية، والمتمثل في ضجيج المصانع، والذي يُصبُ أكثرُه في آذان المحاويج، الذين يعملون فيها و/أو يسكنون قربها، الأمر الذي يترتب عليه تلويث سمعي هائل وإضعاف لحاسة السمع، بما قد يجعلها تُقدِم على استقالة حواسية مبكرة. ويكمل الكتاب ما بدأه المقال بذكره امتداد تأثير الطبقة الاجتماعية على حياتهم اليومية ومنازلهم، إذ عادة ما تتلحى بيوت الأغنياء بهدوء مرتفع، يشمل المنزل نفسه أو الحي الذي يقطنون فيه ويتوسع الهدوء وهو خلاف الضجيج ليصل إلى مواصلات تنقلهم بما تمتاز به سيارتهم مثلًا من انسيابيه عالية وعزل ومميزات تصب في الأخير في كونها تكمل حلقات الهدوء المحيط بهم على خلاف الطبقة العاملة أو الفقراء وكون الضجيج رفيقهم ليس في أماكن أعمالهم وحسب وإنما في أحياء سكنهم وبيوتهم، ويتضح ذلك في قرب البيوت من بعضها وصغر مساحاتها وكثرة سكانها مما بالضرورة ينتج ضجيج متواصل.

والآن أكمل قراءتي.

مارسيل بروست وقبلة ما قبل النوم

أسهب مارسيل في ذكر أهمية قبلة والدته له قبل النوم عندما كان طفلًا، موضحًا حرصه عليها بتفصيله لأكثر من مشهد كانت القبلة والحصول عليها هي كل ما يتحدث عنه، أبرزها رسالته إلى والدته والمرسلة بالاستعانة بالخادمة أثناء سهرها ذات ليلة وما رافق ذلك من قلق وتخطيط وكأن الأمر حياة أو موت! ثم ما انتهى به الحال حينها.

حديثه عن قبلة ما قبل النوم أعادني إلى سنوات ما قبل المدرسة، وبالتحديد إلى السنوات المبكرة جدًا قبل حتى ذهابي إلى الروضة. تلك الفترة من عمري ارتبطت بقصة وتهويدة ما قبل النوم، كانت الجزء الثابت في يومي قبل تعلمي القراءة، الجزء الحاضر دومًا لأنه قد يتحول إلى مكافآة متمثلة في عدد إضافي من الصفحات التي تقرأها علي والدتي أو مضاعفة مرات تكرار التهويدة، الأهم هو عقدنا لاتفاق ينص على ثبات عدد الصفحات المقروءة يوميًا، قد يزداد ولكنه لا ينقص، واستمرت هذه العادة الأقرب لقلبي حتى بعد دخولي إلى الروضة ثم التمهيدي، أي ما يقارب ثلاث سنوات من قصص ما قبل النوم وحرص ماما على تنوعها وما تحمله من قيم تربوية تناسب عقل طفلة بسنواتها التي بالكاد تتجاوز أصابع اليد الواحدة، والكثير مما كنت أعتقد حينها بغرابته، لذا كانت تتلقى ماما عدد لا بأس به من الشهقات والأسئلة والتحليلات.

قصص ما قبل النوم كانت قرار ومسؤولية ماما، هي من اقتنعت بأهميتها ثم لم تتوانى حفظها الله عن الاستمرار وتوفير أجمل القصص لسنوات، في الحقيقة أبدعت في اختيارها لمستوى ومحتوى وتنوع القصص والتي أراهن الآن على قدرتي في استرجاع الكثير من تفاصيلها.

أضف إلى قصة ما قبل النوم، كنت أقبض على كف والدتي لاقتناعي بأني متى ما أمسكتها بقوة يعني أنها لن تتمكن من إفلات يدها بعد استغراقي في النوم وستبقى بجواري إلى صباح اليوم التالي، إلى وقت استيقاظي، كل يوم كل يوم!

لا يمكنني اختصار وقت ما قبل النوم، أو ايصال معناه وقيمته وأثره في نفسي، كان طقسًا أثيرًا وهو وقتي المفضل أقضيه ملتصقة بوالدتي أستمع مشدوهة إلى صوتها وهي تلونه وفقًا لأحداث القصة، ختام لطيف ليومي ولفقرة النوم والتي عادة ما تكون غير مفضلة للأطفال في حين أني كنت أنتظرها بكل حماس.

لذا أفهم جيدًا أهمية قبلة ما قبل النوم بالنسبة لمارسيل، أفهم ارتباكه أمام احتمالية عدم حصوله عليها لأي سبب كان وكيف يبذل قصارى جهده في المحافظة عليها.

معنى آخَر لـ آخِر

في المعجم:
آخِر: مقابل الأول، عكس الأول.
كلمة: اللفظةُ الدَّالةُ على معنًى مفرد بالوضع.

كما يظهر هي كلمة مختصرة بمعنى واضح، إلا أني سلبتها معناها وضده، في كل مرة كنت أكتبها لشخص بعينه، أتركها غارقة في بحر الحروف، عالقة بين كل المعاني إلا معناها، في المنتصف تبتعد عن ضدها (الأول)، ولا تقترب من الأخير، تبقى ضائعة، دائمًا ما تجد لها (وجودًا) في مكان ما إنما ليس أينما يفترض لها أن تكون، وما أقسى أن تكون موجودًا في (الخطأ) مكانًا أو توقيتًا، والأسوأ كلاهما.

في كل مرة أكتبها: آخر، ما إن أنتهي من كتابة الراء حتى تبدأ في ركضها، تحاول اللاحق، تحاول الوصول إلى الجهة الأخرى حيث معناها الكامن بين حروفها، أثناء ذلك، يصلني ضحك كل الكلمات! إذن هم يعلموا بقصتها، يدركوا جيدًا ضياعها ومحاولاتها، وكثرة استخدامها دون فائدة، مسلوبة المعنى والقوة.

ألحقتها بكلمات عدة، علّها تساعدها في العودة إلى جوهرها فكانت: آخر تلويحة – آخر رسالة – آخر محاولة، صارت أصوات الضحك أعلى! وبقيت هي على حالها. لم أكتف بهذا، أرفقتها بي، ربما أكون مرشدتها فقلت: آخر مرة، لمرات عدة، لكني أعود! آخ تطورت الحالة، والحمدلله، بالنسبة لي لا أحد يعلم سواه، وإلا كنت سمعت ضحكاتهم تمامًا كما سمعتها كلمتي المسلوبة.

كان كل هذا متكئًا على أمر واحد: استثناء، حتى طال هذا الاستثناء أفعالي وكلماتي، فأقول آخر مرة، لمرات وأعود، لم يكن لآخر مفعولها على الإطلاق، لم يظهر حزمها أو صرامتها، لا يتعدى الأمر كونها هدنة قصيرة، ولا أعلم من فينا يقنع الآخر، أكتبها لتقتنع بأنها المرة الأخيرة فعلًا، أم تقنعني بأنها ستمثل معناها خير تمثيل؟ بعد كل مرة أستعين بها، كان كلانا ينظر إلى الآخر مبتسمًا على عدم جدوى استخدامها وتكرارها المتكرر حشوًا في معنى الحياة، إلى أي حد هذا مضحك؟

لكن يبدو لي كما تشير التقارير الصادرة مؤخرًا، أنها في طريقها إلى معناها،  دون ركض هذه المرة، وقريبًا جدًا ستصل، وسيكون لـ آخِر معناها السليم، تجربة قاسية خاضتها، متميزة بذلك عن كل الكلمات، لا بأس فالتجارب تصقل وكانت هذه الجولة من نصيب كلمة آخِر.

الأمر سيّان

-1-
قرأت ذات مرة بأن أكثر الأسئلة تبدأ بـ:كيف؟ في حين أن معظم إن لم تكن جميع أسئلتي قائمة على: لماذا؟ لم تكن حيرتي في الطريقة، دائمًا هناك حل. إنما في الأسباب والدوافع والمحفزات. في معرفة الأساس الذي قادنا إلى ما وصلنا إليه عند وصولنا أو فيما يدفعنا للوصول إذا لم نسلك طريقًا بعد.
هناك ما يحدث ويجعلني متعجبة فعلًا من مشاعل! لم يسبق لي أن كنت في حالة مشابهة على الإطلاق. غرابة غريبة 😶
اعتدت على ترك الأمور تسير كيفما اتفق، حتى وإن كانت (ظاهريًا) تبدو متناقضة فالأساس واحد وستؤول في آخر الأمر إلى نفس الجهة. لكن هذه المرة؟ لا يخصني الأمر وحدي وهنا مكمن النكتة. لا يملك الجميع القدر نفسه من المرونة واللين، لذا قد لا تُتجاوز (الحماقات المتكررة) عندما تكون نتيجتها متعدية ومشتركة إن كان مرتكبها واحد (أنا)

-2-
الإنسان إنسانًا بما يعتريه ويعبره من مرتفعات ومنخفضات، بقلة حيلته أمام ما استعصى عليه، بتجاربه الجديدة وخبراته القديمة. من هذه القناعة، أنا لا أخجل مما أخوضه ولا من تبدل وتغير حالي. أواجه بكل ثبات لحظات ضعفي التي أدركها تمامًا، تلك التي أقف أمامها عاجزة عن اتخاذ أي خطوة رغم فهمي التام لما يحدث أو حتى النقيض من ذلك. وما كتبته الآن إنما توثيقًا لهذه المواجهة والتي تبدو لي -حتى اللحظة- صماء تمامًا. حين أقرأ ما كتبت، أسأل: ألا يبدو في هذا مبالغة يا مشاعل؟ قد يكون كذلك. لكن على الأقل، أنا أكتب ما أعيشه وأشعر به، أكتب صدق شعوري وأنقل أفكاري كلٌ كما هو. ولا مانع لدي إن بدا في ذلك مبالغة طالما أنه واقعًا قائمًا ولو للحظة واحدة.
مررت بما هو أشد وأصعب أضعافًا كثيرة مما لا يبقي مجالًا للمقارنة. ولطالما كانت الكتابة طريقة للتجاوز، لذا ستبقى كذلك. وليقرأ من يقرأ أو يقرأ من لا يقرأ أو لا يقرأ من يقرأ الأمر سيان.
ولأن مريم قالت: الكتابة تحتاج شجاعة؛ فأنت ستواجه نفسك أولاً وهذا أمرٌ ليس بالهيّن. ثم ستواجه الناس وهو أمر لا أعرف كيف أصفه.

هوس

يقول ضيف فهد في قصة قصيرة له: أنا ذاهب في هذا الممر الآن، لمرة أخرى جديدة من مرات لم أكن حريصًا على عدها، لا أمتلك مثل هذا الهوس، ومع كل انعدام للمعنى أو الفهم الذي يسيطر عليّ، لم أصبح من أولئك المعتوهين الذين يحاولون جمع شتات أنفسهم من خلال العد، عد التكرارات السخيفة المحيطة بهم.

وأنا في الجهة الأخرى كتبت: أحب تتبع التواريخ، أحب فكرة المسافة الزمنية والفواصل بين الأحداث وكم زمن الاستغراق لفعل الأشياء.

لدرجة متقدمة أنا مرتبطة بالأعداد، قلتها ذات مرة لا أتذكر أين لكن إلى حد جيد تعطيني الأرقام فهمًا أكبر، حين أحوّل فكرة ما إلى مجموعة أرقام ومن ثم أبحث عن العلاقة بينهم تبدو بهذه الصورة أوضح وأقرب للواقع وأكثر فهمًا. علاقات مثل: أكبر، أصغر، أقل، أكثر، أقرب، أبعد، كم الوقت المستغرق وكم المسافة المقطوعة والزمن الفاصل وكل ما يمكن أن تحمله هذه الأرقام من دلالات ومعاني تتوسع لتشمل مفاهيمًا أعمق. بالطبع ليست كل الأشياء قابلة للخضوع إلى (الرقمنة) لكن كل ما هو متاح لهذا التحول سيكون فهمه أفضل.

أيضًا كتبت: أحب رقم 8 لأنه يشبه علامة Infinite والتي أغرمت بمفهومها منذ أن درستها وأرى رمزها معبر ومنطقي جدًا، دوران لا نهائي.

إذا بالنسبة لضيف، أنا إحدى أولئك المعتوهين الذين يحاولون جمع شتات أنفسهم من خلال العد.

أبويا

أبويا (جدي لوالدتي) حبي الأول بكل ما تحمله الكلمة من معنى، خطواتي وذكرياتي الأولى مرتبطة به، حضوره كثيف في كل سنواتي، منذ ذلك النوع من الذكرى الضبابية، مرورًا بكل مراحلي الحياتية والتعليمية. في الصباح كان يوصلني للروضة التي هي أقرب لمنزلنا منه لكنه يأتي من أجلي، كذلك الحال في المرحلة الابتدائية ولن أنسى فرحته وهو يوصلني عام ٢٠١١ لشراء كتب مقررات الجامعة من إحدى المكتبات، اختار أن يتصل بصديقه: ألو… هلا والله رايح أوصل مشاعل تشتري كتب الجامعة! مشاعل؟ ايوه..دخلت جامعة الملك عبدالعزيز هذي السنة. الله يبارك فيك.. ثم تعليقه بعد انتهاء المكالمة وضحكنا.


فترات الصباح وآخر الليل مرتبطة به وخالي تركي، كنا نقضي برفقته الكثير من أوقاتنا. نبدأ يومنا في بعض الأحيان بالذهاب معه لإحضار الفطور ثم اللعب بالورق أو مشاهدة فيلم كرتون من شريط فيديو أو مشوارنا معه لأرضه وسباقنا له بالسيارة. كنا نخبره ما نريد إذا رفض الكبار طلباتنا، أتذكر بكائي وتركي لأننا نريد شراء بيضة بيكاتشو الآن! ومحاولاته إقناعنا بأن الوقت قد تأخر ووعده لنا بذهابنا في اليوم التالي لكنّا لم نقتنع، ذهبنا بعد العشاء وقد تأخر الوقت فعلًا. حبه لتسجيل الأرقام في دفتر يلازمه، بدأت الكتابة له في عمر مبكرة وكنت أسعد في كل مرة يطلب مني ذلك. جلوسه أمام أوراقه أو ماكينة الخياطة أو أشرطة الفيديو… مشاهد كثيرة يستحضرها رأسي إذا ما أردت كتابتها لن أنتهي هو سيدها وأساسها، صوته وضحكته وخفة دمه وذكاءه.

في طفولتي المبكرة جدًا كنت أنسب نفسي إليه، يسألوني ما اسمك؟ أجيب مشاعل وألحق اسمه ليضحكوا ثم يصححوا لي وأرفض، هم يخبروني لا أتذكر هذا التفصيل جيدًا لكن الآن أعيده إلى قلبي، ربما قلبي اختاره والدًا لي لأنه يمثل دور الأب بأبهى ما يمكن. حفيدته الأولى والوحيدة لسنوات ولا أحد من أحفاده يعرفه مثلي، وأنا هنا أعي ما أقول تمامًا. لم يكوّنوا شريط ذكريات كما فعلت، ولم يعرفوه في قوته ونشاطه. جدنا واحد لكننا نعرفه بطرق مختلفة ونحفظه في ذكرياتنا بأشكال مختلفة ونختصره ونعبر عنه بكلمات قد تصل للتضاد.


والآن، ترهقني جدًا رؤيته وهو يتقدم بالعمر، أن يتبدل حاله ويلزم مكانه بدلًا من نشاطه وخروجه وحركته الدائمة. أن يحتاج لغيره بعدما كنا كلنا نلجأ ونعود إليه. أن يبقى صامتًا معظم يومه وحيدًا وإن اجتمعنا حوله. يفقد أصحابه ومعارفه ونمط حياته السابق. ويذكر جدة بحالها وما كانت عليه منذ سنوات خروجه الأخيرة. ركننا المتين ووثاق أماننا ورجل المهام السهلة والصعبة ومنقذنا، أحبه ويحزنني ضعفه ولكن هذه الحياة. ومهما كتبته لن أوفيه حقه أمده الله بالصحة والعافية.

نحن فيما نقرأ

بداية:
الجملة: مجموعة الكلمات أو الألفاظ التي تكوّن معنًى أو عدّة معانٍ تامّة مفهومة في مُجملِها. 
العبارة: وَحدة لغويّة أصغر من الجملة، وتعبّر بدورها عن معنًى خاصٍّ وجيز. ومن العبارات ما يُصطلَح بالعبارة الاصطلاحيّة، وهي جزء من جملة تأتي كلماته غالبًا في نفس الصّياغة والترتيب.*

مرة في عام 2016 وجدت أني خلال قراءتي للأدب، تلفتني عبارات أو جمل يكون لها تأثيرها بمجرد قراءتها أو تعكس فكرة رئيسية أو شعور يسيطر علي أثناء تلك الفترة ويتزامن مع قراءتي لهذا العمل. ما جعلني أنتبه حينها أنني أعدت قراءة رواية ثم لفتتني تحديدات القراءة الأولى، لأنها اختلفت تمامًا عن القراءة الثانية وكنت أستغرب لماذا أوقفتني مثل هذه العبارات؟ والفرق الزمني بين القراءتين ليس قصير. كانت تحديدات القراءة الأولى باللون البرتقالي فاخترت اللون الأخضر للقراءة الثانية حتى أتتبع الفرق. القراءة الثانية كانت بعد التخرج من الجامعة وقبل الحصول على الوظيفة، بعد مرور ما يقارب سنة ونصف وحينها بدأ الملل يتسرب لجزء كبير من أيامي، كنت أقف كثيرًا أمام ما يصف الملل والسأم والضجر وثقل الأيام ورتابتها. وبعد الانتهاء من قراءة الرواية كاملة عدت للتحديدات، أتذكر جيدًا أن الفرق بينهما واضح. كل فترة تنعكس على جملها وما يهمني خلالها فأجدني أبحث عنه بين السطور وأنجذب إليه بسرعة وسهولة. لا أملك الرواية الآن وإلا كنت كتبت بعض مما حددته.

عادة التنقيب أو التتبع هذه أظنها بدأت من تلك السنة لتستمر معي إلى الآن، تزامن هذا مع إضافتي لسلسلة تغريدات في تويتر لتكون مرجعًا لما يعجبني من تراكيب لغوية وكتبت في وصفها: الجدير بالذكر أني غالبا أعجب بتركيب جملة ما أو جزء من جملة وأظل أردده، من الممكن ألا تكون جملة جديدة ولكن فجأة سمعتها بشكل مختلف ويمكن أن تكون جزءًا مبتورًا لا معنى له لكن تركيبه أعجبني، وقد تجمع بعض الأحيان الاثنين معًا: تركيبًا ومعنى. هذه السلسلة أراها -مع نفسي- من أجمل ما قمت به ونموها مستمر منذ 2016 وإلى تاريخ كتابة هذه التدوينة وصلت 280 عبارة أو جملة.

كل المكتوب أعلاه قفز إلى رأسي لأني قرأت كتاب في أثر عنيات الزيات وبعد انتهائي منه عدت لأرى ما الذي وضعت أسفله خط. بشكل واضح كنت أرى ما يشغلني في هذه الفترة من أفكار أو مواضيع ، منها:
1. الكتابة هويتها، طريقها الوحيد في البحث عن معنى.
2. تكتب بورتريهات عن ناس تعرفهم من غير أسماء.
3. “كتير بفكر إيه الفرق بيني وبينها؟ إحنا فولة واتقسمت نصين.. بس الفولة لما اتقسمت، بتاعتها مقفولة، تجتر الأفكار والآلام.. أنا بقى أقول وأضحك أو أزعق.. هي ما تعملش كده. عندي حاجة لما أخش في مشكلة تقلب معايا كوميدي، أنا بضحك لما أكون في مصيبة. أعتقد ده الفرق. هي لما تكون بتتألم ما تعرفش تقول.. تاخد وقت طويل لما تتكلم”
4. جعلني مزاجها المتقلب أحترمها أكثر، أنا لا أصدق الأفراد غير المزاجيين.
5. عنايات كانت تسجل في الصفحة الأولى من كل كتاب تملكه متى وأين حصلت عليه.
6. البوابون حرّاس الجغرافيا.
7. كانت غرّيرة ويحدوها الأمل حتى أنها تشير في يومياتها إلى نفسها بـ”هي” بدلًا من “أنا”
8. شغلت نفسها بقدر ما تستطيع.
9. التعبير الأدبي للمرأة هو أنضج معاركها من أجل الحرية.
10. الصمت حجرة مغلقة محكمة بلا نوافذ ولا أبواب ينفجر فيها الهواء بنداء استغاثة يختنق في حلوقنا، باستجابة للنداء تختنق في حلوق أعزاءنا، بكلمات مبهمة ناقصة مبتورة لا تكتمل أبدًا ولا تتشكل أبدًا، بصرخات حيوانات جريحة تحتضر في جحورها.. صرخات لا يسمعها أحد وإن سمعها لا يفهمها.
11. كانت الأوراق القليلة التي نجت نقاطًا منزوعة من نص حياة.
12. تبدأ أشياء ولا تنهيها، هناك مفرش تنقصه غرزة أخيرة، ولوحة على الحامل لم تكتمل.
13. إنها حالة فردية للبحث عن معنى.
14. هذا الصوت يضيء أكثر عندما يتكلم عن عتمة الداخل.
15. على هامش اللحظة.

والشكر موصول للإجازة وإلا فأي مزاج هذا الذي يسمح بكتابة تدوينة في الثانية ظهرًا؟ كما أنني قرأت في أثر عنايات الزيات خلال جلسة واحدة -سعيدة بذلك- وهذا يستحيل لولا الإجازة.

ذاكرة المسبح

أحب المسبح ولا مشكلة لدي في قضاء ساعات وأنا أسبح ثم أخرج لأقفز وأعيد ذلك مرات عدة، لكن إذا سئلت هل أنت متمكنة من السباحة؟ قد لا أجيب أو ربما أنفي لكن أنا جيدة جدًا في المسبح. وإن عدت لنقطة البداية أو كيف تعلمت السباحة لا أجد سوى أن والداي كانا يأخذاني أسبوعيا وبانتظام إلى مسبح بحيرة القطار منذ أن كنت في الرابعة أو الخامسة إلى عمر التاسعة تقريبًا. كنت أحاول وأجرب كل ما يمكنني من السباحة وحدي فلا معلم ولا موجه. ذاكرتي لا تحمل الكثير عن تلك السنوات سوى المشهد الأول عندما كنت خائفة كل الخوف وأنا أمشي وأنظر للمربعات في أرضية المسبح كيف لها أن تتحرك؟ ثم اللحظة الأجمل وهي ترقيتي من مسبح الأطفال ذا العمق الواحد إلى مسبح الكبار المتدرج وصاحب الزحليقة الحمراء الملتوية والأكبر على الإطلاق! كانت أشبه بلحظة تتويج لن أنسى سعادتي حينها. ثم زيارات متباعدة للحديقة المائية مع تركي ولحظات التمرد على اممم لا أعلم ما اسمها تلك أدوات الحماية من الغرق ههههه كفر السباحة وحلقات اليدين. ثم توقفت زيارات المسبح لتعود مرة أخرى ولشهر واحد في الصف السادس ضمن فقرات نادي صيفي انضممت إليه، تعلمت فيه عمل السينابون.. لكن لم يجذبني المطبخ مثل المسبح. ولصغر أعمارننا إذ أنه نادٍ متخصص بالأطفال لم تكن السباحة الحرة متاحة لنا طوال الوقت. المدربة لم تفيدني لأنها تتحدث الانجليزية وأنا في ذلك الوقت لا أعلم سوى الحروف و يس ونو.. كنت أتركها خلفي وأسبح وحدي.

غبت سنوات طويلة جدًا عن المسبح، حتى عدت مرة أخرى عندما حجزت استراحة لأهلي بمناسبة حصولي على وظيفة بداية ٢٠١٧ ثم في النادي ٢٠١٨ و٢٠١٩ وها أنا أعود مرة أخرى ٢٠٢٠. المسبح الحالي هو الأعمق من بين كل المسابح التي تواجدت بها إذ يبلغ عمقه ١٩٠سم. ومن هنا تأكدت من أني فعلًا أجيد السباحة، في البداية كنت أدور حول أطرافه، لأتمكن من إمساك البار في أي لحظة خطورة. حسنًا بعد أخذ لفتين على هذا الحال قلت لابد من الذهاب لمنتصف المسبح لكن في عمق أستطيع الوقوف فيه عند الشعور بالخطر، بعدها محاولة شق المسبح بالعرض في عمق لا أستطيع الوقوف فيه. ثم التدرب على كل الحركات التي تعيد لي توازني إذا اختل في منطقة لا تصل فيها أطراف أصابع قدمي إلى بلاط المسبح. نجحت! ما زلت للآن خائفة من القفز وعادة أقفز بوجود رفقة ويرتفع الحماس معهم لأقصاه، الآن أنا وحدي لكن أعلم من أني سأقفز قريبًا إن شاء الله.

اخترت المسبح ليكون كل جمعة، ختام لأسبوع مرهق وأيضًا بداية لآخر. ساعة ونصف مكثفة من السباحة الحرة تتخللها لحظات استرخاء تام وأترك كامل القوة للماء بأن ترفعني وتحركني كيفما تشاء في تلك الأثناء وأنا مستلقية أنظر للسماء من فوقي؟ امممم لا يمكنني وصف شعور تلك اللحظة. إضافة أسبوعية تمحي كل ما كان، بعدها أذهب للجاكوزي الذي أشعر بعده بأن عضلاتي تفككت إلى خلايا. الجاكوزي ينقسم في النادي لقسمين متجاورين ساخن وبارد، في المرة الأولى حاولت الدخول إليهما الساخن ثم البارد، الآخير لم أتمكن بارد جدًا جدًا لكن الساخن لائمني.

في الجهة الأخرى، لا أتذكر أني أحب السباحة في البحر، ملوحته لا تعجبني وكنت أخاف وأكره إحساس الشعب المرجانية أو النباتات البحرية أو لا أعلم ما اسمها من تحت أقدامي لذا كنت أدخل البحر بحذاء، دائمًا! كنت أمشي فقط دون أن أسبح. وهذا محرج لكوني كبرت في مدينة ساحلية.

القراءة ببطء

يقول ميلان كونديرا  في رواية البطء:” السرعة هي شكل الانخطاف الذي جعلت منه الثورة التقنية هدية للإنسان.” جميعنا مؤخرًا مع غرقنا في هذه التقنية نستطيع أن نلاحظ بأن كل شيء في الحياة أخذ وتيرة سريعة، تغير تعاملنا مع مفهوم الوقت والانتظار، تضخم إحساسنا بالدقيقة وبالتالي الساعة ثم الأسبوع وهكذا حتى باتت السرعة هي ملخص أيامنا. في اللحظة الواحدة، أصبحنا نقوم بعملين ظنًا منا لتوفير الوقت. سواء أدركنا ذلك أو لم ندرك أصبحنا في عجلة من أمرنا بشكل شبه دائم.

قبل عدة أيام كنت في حديث مع أصدقائي فأخبروني مازحين كعادتهم بأني أستغرق وقتًا طويلاً في مشاهدة الأفلام والمسلسلات أي أني أشاهدها ببطء مبالغ فيه كما يرون وأنا هنا على العكس منهم تمامًا. كنت قد بدأت بمتابعة مسلسل قبل صديقتي بحلقتين وهي الآن انتهت من مشاهدة الموسم السادس بينما أنا للتو بدأت بالموسم الثاني. وفي أثناء ردي عليهم مازحة أيضًا تذكرت أن هناك من سألني قبل ثلاث سنوات بعد متابعة حسابي على موقع Goodreads سألني: لماذا تقرأين عادة ببطء؟ والمقصود بالبطء هنا أني أستغرق وقتًا أطول من المتوقع مقارنة بعدد صفحات الكتاب إذا ما كانت هي المقياس. كنت في تلك الأيام أقرأ رواية الجوع لكنوت هامسون، وعلى الرغم من أن عدد صفحاتها لا يتجاوز 240 إلا أني قرأتها فيما قارب الشهر. أستطيع قراءتها في جلسة واحدة لن أقول خلال يوم واحد بل جلسة واحدة فقط! لكن السؤال لماذا؟

لماذا يجب علينا أن نقرأ سريعًا؟ خصوصًا في القراءات الشخصية الحرة التي لا تخضع لأي مسؤول ولا قوانين سوى أن تفتح الكتاب وتقرأ متى شئت وأينما أردت. لذا من الواضح أن قراءات الدراسة والعمل مستثناة مما سأقوله. لطالما تساءلت لماذا التحريض تجاه ضرورة سرعة القراءة؟ أو الترويج للقراءة السريعة وتأليف العديد من الكتب التي تعلمك تقنيات القراءة سريعًا أو حتى قيام دورات تدريبية لذلك. ما ضرورة كل هذا بينما أنا أقرأ رواية جميلة وأستمتع بتفاصيلها وأعيد بعض الفقرات عدة مرات حتى أعيش جمال ما كتب فيها؟ أعتقد أنني أنتهج القراءة البطيئة إن كان هناك طرق وأساليب القراءة فحتما البطء إسلوبي.

بعد محادثتي تلك مع أصدقائي أخذت أراجع جميع قراءاتي، بالمجمل كانت معظمها تأخذ مدة أطول مما هو متوقع نسبة إلى عدد صفحات الكتاب. إذن النسبة الكبرى من القراء بشكل أو بآخر هم ينصحون بالقراءة السريعة والتي بالضرورة ستجعلنا نلتهم الكتب في فترة أقصر. أنا لا أحرص على هذا، ليس من أهدافي أن أقرأ سريعًا.
دائمًا ينصحون بمضغ الطعام جيدًا أي ببطء أو لنقولها بجملة أخرى: أن نأكل على مهل. وأن لذلك فوائد يستطيع أن يعددها لك فورًا. ربما وسعت أنا هذا البطء ليشمل قراءة الكتب أيضًا. قراءتي باختياري بطيئة كذلك إذا ما دخلت في قراءة جماعية غالبًا ما أكون متأخرة عنهم بيوم أو يومين.
أستطيع أن أزعم أنني بسبب القراءة البطيئة، أنا أتذكر جيدًا، أتذكر المشاعر، التفاصيل، تفاصيل الشخصيات والأماكن مثلًا، أتذكر ردة فعلي، الأثر الذي انعكس على نفسي من الأحداث أو تلك التفاصيل الصغيرة الموجودة بالعمل.

بالمناسبة، رواية البطء لميلان كونديرا اقتنيتها في المقام الأول لعنوانها ثم لما كتب خلف هذه الرواية:
“”ويدعونا الكاتب، وهو يمجد البطء في هذه الرواية، إلى الوعي “بالوشيجة السرية التي تربط البطء بالذاكرة، وتصل السرعة بالنسيان” وفي هذا العالم الذي لا تنفك فيه سرعة كل شيء تتنامى، يرى كونيدرا أننا أضعنا الذاكرة التي تُفضي بنا إلى اللذة وتمكننا من الشعور بالمتعة في عيش الحاضر”” عند قراءتي لهذه الفقرة لم أستطع تجاوز الرواية أبدًا.
ثم وجدته يربط النسيان والتذكر بالسرعة والبطء عندما صورها في مشهد كثيرًا ما نراه في حياتنا الواقعية حيث قال:
” ثمة وشيجة سرية بين البطء والذاكرة، كما بين السرعة والنسيان. لنذكر بهذا الصدد، وضعية قد تبدو عادية للغاية: رجل يسير في الشارع، ثم فجأة يريد تذكر أمر ما، لكن الذاكرة لا تسعفه. في تلك اللحظة بطريقة آلية يتمهل في الخطو. أما من يسعى إلى نسيان طارئ شاق وقع له توًا، على العكس يسرع، لا شعوريا، في مشيته كما لو أنه يروم الابتعاد عن طارئ ما زال من حيث الزمن قريبًا جدًا منه. في الرياضيات الوجودية، تأخذ هذه التجربة شكل معادلتين أوليتين؛ تقوم الأولى على تناسب درجة البطء مع حدة الذاكرة والثانية على تناسب درجة السرعة من حدة النسيان.”
في المقابل يقول فيليب روث: “قراءة الرواية عمل يتطلب قدرًا من التركيز والتمحور الذاتي والانغماس في القراءة ولو صادف أنك قرأت رواية ما ولم تكملها بعد أكثر من أسبوعين فذاك يعني أنك لم تقرأ فعلًا.”
هنا أيضًا أقف موافقة على رأي فيليب فيما يخص التركيز والتمحور الذاتي والانغماس، تمامًا هذا ما تحتاجه قراءة رواية أن نغرق في عالمها تمامًا. وأوفقه على تحديد مدة أسبوعين في حال أن الرواية تشدك بقوة حتى تنهيها ليس من أجل فكرة السرعة ولكن لتكتشف ما ينتظرك وراء سطورها وشخصيتها. أظن أنني أقرأ تحت مظلة كونديرا وفيليب، جمعت بينهما معًا بطريقة ما أجهلها.
أخيرًا: ليس هناك قواعد وضوابط محددة ومقيدة للقراءة الحرة كما يسوغ لها الكثير. كل ما في الأمر أفتح كتابك وأغرق فيه كيفما شئت حتى تصل إلى أعمق ما فيه ويصبح جزءًا من وقتك تفتقده عندما تنتهي منه.