أكتب الآن وأنا جالسة أمام مكتبي الجديد، ولأول مرة. وصل بالأمس مع كرسيّ. كتبت هذه الجملة في دفتر يومياتي ظهر يوم الأربعاء، أي قبل ثلاثة أيام. بعدها دوّنت وصفًا لمشاعري في تلك الجلسة. قد يبدو إدراج كلمة مشاعر مع حصولي على مكتب وكرسيّ مبالغة، لكن الأمر بالنسبة لي أبعد وأعمق، وفكّرت حينها بكتابة هذه التدوينة… تدوينة عن المكاتب الشخصية. أمضيت الأيام التالية لذلك الظهر وأنا أسترجع كل ما يتعلّق بكلمة مكتب في حياتي كلّها، واستعنت بحقيبة ألبومات الصور القديمة. هل شملت كل شيء؟ سؤال لا أعرف إجابته، لكنني حاولت.
أول ما تبادر لذهني: ما أقدم مكتب أتذكره؟ ولم أرهق رأسي طويلًا، فهو موثّق بصور كثيرة. ذلك المكتب -إن كان يدخل تحت معنى الكلمة- هو أولهم. حصلت عليه في عمر الرابعة أو الخامسة، وبالأدق حين تعلّمت الحروف لأول مرة. أتذكره جيدًا، وأتذكر تفاصيل اختياره والحيرة التي سبقته، وسطحه العلوي كان مزينًا بالحروف الأبجدية والإنجليزية مع الأرقام، وطريقة إغلاقه السحرية فلا يشغل إلا مساحة صغيرة. كان مثاليًا لمتطلبات عمري حينئذ.

بعده جاء مكتب خشبي… كان صديقي من الصف الأول حتى الرابع ابتدائي. لم أجد له أي صورة، لكنه كان نسخة معدّلة عن طاولات المدارس وقتها. ولا أعرف هل كان اختياري أم اختيار أهلي؟ مع أنهم عادة يتركون لي حرية القرار. لماذا حصلت في المنزل على مكتب يشبه مكاتب المدرسة؟ سؤال ظل بلا إجابة.

ثم انتقلنا لبيت آخر، وحصلت على مكتب جديد، وكان نقلة في مستوى المكاتب… لأنه ببساطة مكتب كبار. كنت في الصف الخامس، وسعادتي به لا تُوصف. كيف أحصل على مكتب كبير وحقيقي وأنا في هذا العمر؟ لدرجة أن كل صورة له لابد أن أظهر فيها.
ها أنا في الصف الخامس أتصفّح موسوعة علمية ويظهر عليه اهتمامي المبالغ على شكل إكسسوارات مكتبية رتّبتها بعناية، وكنت أزيد عليها وأبدل باستمرار. وبالقرب منه -في طرف الصورة على اليمين- مكتب الكمبيوتر بكل ملحقاته. ولا توجد له صورة منفردة كذلك. يمكن تخيّل مشاعري وأنا أمتلك مكتبين بهذا الحجم وأنا ما زلت في الصف الخامس.


بقيت غرفتي كما هي حتى المرحلة المتوسطة، حينها تحوّلنا من الأجهزة الثابتة إلى اللابتوب، فاختفى مكتب الكمبيوتر وبقي المكتب الأساسي حتى سنتي الثانية أو الثالثة في الجامعة.
ومع الانتقال إلى منزل جديد، ودّعت مكتبي القديم. وأثناء بحثي عن سلسلة “مكاتبي الشخصية” من أجل كتابة هذه التدوينة وجدت منشورًا في إنستقرام بتاريخ 4 أغسطس 2017:
انقطعت لفترة تقارب الثمان أشهر من تصوير مكتبي كما يبدو وهي المدة التي قضيتها دون مكتب – والذي بطبيعة الحال لم يكن سوى طاولة-. الآن أعود مرة أخرى بمكتب صغير وجديد لتصوير لحظات متفرقة من أحوال مكتبي دون تعديل أي شيء. فقط أتوقف للحظة أرفع كاميرا هاتفي وألتقطه ثم أكمل ما كنت أفعله. #فوضىمكتبيالصغير ١

كان المكتب الصغير حينها ملاصقًا لمكتبتي. مساحته صغيرة جدًا، تبعًا لمساحة الغرفة الصغيرة أيضًا. لكن واضح مما كتبته في ذلك الوقت أنه كان جزءًا أصيلًا من غرفتي، رغم صغره… لكني انتظرته ثمانية أشهر كاملة. عشت معه من 2017 إلى 2020.

ثم جاءت فترة الانقطاع. انتقلنا كذلك لمنزل جديد، لكن بلا مكتب هذه المرة. واستمر الوضع لأربع سنوات. لم يكن الأمر سهلًا على من اعتادت وجود مكتب خاص. استعضت عنه بطاولة الطعام، ولم يكن ذلك مريحًا إطلاقًا، كنت أتنقل بأغراضي من مكان لآخر. لماذا لم أحصل على مكتب؟ لسببين: الأول شعور “البيت المؤقت” الذي سبق وكتبت عنه. والثاني أن البيت الجديد كان أصغر البيوت مساحة، ووجود مكتب فيه كان رفاهية مؤجلة.
وأخيرًا -بعد غياب المكتب عن أيامي لما يقارب خمس سنوات- جاء المكتب الأخير، والدافع وراء كتابة هذه التدوينة، والذي أراه عوضًا عن كل ما سبق. بفضل الله حصلت على مكتب بسيط وجميل، أراه في عيني أجمل المكاتب وأفخمها 😆

حقيقة لم أكن أدرك من قبل أهمية المكتب في حياتي، أو أن له قيمة بهذا العمق. حصولي عليه الآن لم يكن مجرد امتلاك قطعة أثاث، بل تذكير بأن العوض يأتي، وإن تأخر. المكتب بالنسبة لي يتجاوز كونه قطعة خشبية، هو تجسيد لكل ما مررت به، وكيف تبدّل الحال من حال إلى حال. معنى عميق وخاص جدًا، أكبر من جملة: “حصلتُ على مكتب جديد”. أنا الآن أعيش بفضل الله ما كنت أصبّر به نفسي طويلًا. حالة العيش مع الصبر ليست سهلة، لكنها لا تدوم. الأهم أن يكون المرء واعيًا لتبدّل أحواله وانتقاله من مرحلة لأخرى… كيف كان، وما الذي عبر خلاله، وإلى أين وصل، أن يكون واعيًا بالأمل تماما مثل الألم..
غرفتي ما زالت تحتاج الكثير -كما يظهر في الصورة- حتى الستارة غير موجودة بعد، لكنها بوضعها الحالي، مواساة عظيمة من الله. وتذكير بأن الصبر لا يأتي إلا بالخير.
الحديث عن المكاتب يطول، وهذا ما لم أتوقعه من قبل، أتخيل لو أن أحدهم طلب مني الكتابة عن المكاتب؟! لم أتحدث بعد عن دورها الحقيقي، ولا عن طريقتي في التعامل معها، ولا عن الوقت الذي كانت تحتضنه، ولا حتى عن تلك المكاتب التي كنا نصنعها أنا وخالي ونحن نلعب، مكاتب بعيدة تمامًا عن شكل المكتب الحقيقي، إذ كنت أنا السكرتيرة الدائمة، وهو المدير العام بلا منازع.
المقام يفوق المقال، وما هذه إلا محاولة صغيرة لاختصار رحلةٍ بين مكاتبي، وما تركته في العمر من أثر. يضيق الكلام عن كل ما يجول في خاطري، وعن رمزية المكتب في نفسي، لكني ممتنة لله سبحانه وتعالى، والقادم أجمل بحوله وقوته.
أبحرنا معك ومكاتبك على مر السنين وأدركنا المعنى العميق للمكتب بالنسبة لكِ
تواقة لقراءة المزيد
إعجابLiked by 1 person
مبارك عليك المكتب الجديد يظهر أنه واسع ونوعيته جيدة.
لا شك أن المكاتب لها أثر كبير في حياتنا، ففيه ندرس وفيه نعمل وحتى الترفيه أحياناً يكون من المكتب، خصوصاً إذا كنا نعمل من حاسوب أو أي عمل مشابه فنقضي فيه معظم حياتنا.
إعجابLiked by 1 person
مبارك مكتبك الجديد❤️
أتفهّم تماما مشاعرك وحماسك وأشاركك الشعور بأهمية المكتب.. امتلكت عدة مكاتب أيضًا وكان لدي نفس مكتبك الأول واشتاره لي والدي وأنا في الرابعة 😭😭❤️
إعجابLiked by 1 person