من يعرف والدتي، يعلم جيدًا أنها طباخة ماهرة تبارك الله. ومن يتابعني، يعلم أني مؤخرًا بدأت أقتبس هذه المهارة منها، أو لنقل: بدأت جيناتها تعطيني مفعولًا جيدًا، لكن بالطبع وفقًا لذائقتي ورغباتي في الوجبات.
أقول هذه المقدمة لأن ما أودّ الكتابة عنه حدث إثر طبخة أعدّتها اليوم. كانت تُحضّر بسبوسة ستأخذها معها لمن ستزورها. بسبوسة ماما لا يمكنك أمامها إلا أن تتذوقها. كنت في صغري وما زلت لا أميل للبسبوسة، لا أراها طبقًا يستحق أن يُنقل إلى بطني! وكنت أقاوم بسبوسة ماما، إلا أن آراء كل من ذاقوها دفعتني لتجربتها… فأدمنتها فعلًا. هناك من يطلبها منها عنوة.
كانت تعدّها، وكنت بجوارها أتحدث معها، هذا المشهد الذي يتكرر بعدد سنوات عمري: ماما تطبخ وأنا إلى جوارها. يكاد يكون أكثر اللحظات تكرارًا في رأسي، حتى مع تغيّر المطابخ وتعدّدها، يظل ثابتًا ومفضّلًا للأبد. وما هذا اليوم إلا حلقة تُضاف إلى سلسلة ممتدة.
أدخلتْ البسبوسة إلى الفرن، ثم أخرجتها ساخنة وسكبتْ عليها علبة من الحليب المكثف. إلى هنا، كان الأمر بالنسبة لي مجرّد خطوات اعتيادية. ولسبب ما، مدّت إليّ ماما ما تبقى في العلبة. هنا بالذات، أعادتني إلى عصر يوم ما في بيتنا الأول، حين ذهبت إلى البقالة المجاورة محاولة تجربة شيء جديد.
نعم، يبدو أن عادة التجريب قديمة ومتأصلة في نفسي. رأيت حينها علبة معدنية صغيرة، عليها صورة طفل يمسك بها ويرفع رأسه، في دلالة على شرب ما بداخلها. “أمم، أعطيني هذي العلبة!”
أتذكّر أنني لم أصبر حتى أصل إلى المنزل الذي لا يبعد سوى دقيقة بأبطأ حال، فتذوّقتها فورًا. أعجبتني حلاوتها الطاغية، لكن كان هناك طعم جعل وجهي يتكرمش. ذهبت إلى والدتي لأسألها: “ما هذا؟”
قالت: “مشمش؟ ذا حليب، بس مكثّف.” “إيش يعني مكثف؟” “يعني ثقيل شوي، شوفيه كيف ثقيل صح؟” “أمم، صح.”
حدث هذا الاكتشاف قبل أن أعرف القراءة، وإلا لما أخذته من الأساس، لأني والحليب في علاقة معقّدة.

أحبّ آلية عمل الذاكرة، وكيف تجعل من تفصيلة صغيرة علامة مرجعية لمشهد كامل. أخذت العلبة من ماما، وأخرجت ملعقة لأتناول ما تبقّى من الحليب العالق في جدرانها. في تلك المرة الأولى، كانت العلبة صغيرة. هذه المرة كبيرة. لكن رغم هذا الفرق، استعاد رأسي المشهد الأول كاملًا. الطعم، الحركة، الوقفة فجأة، شمس العصرية، دهشة الكثافة والسكر، وصدمة أنه… حليب!
ولأن ماما من مدت إليّ العلبة، ولأجل هذه التفاصيل، تناولت ما تبقى منها.
على الهامش:
حاولت لعق ما تبقى بسبباتي وجرحت، تمامًا كما كنت في طفولتي وتعليمات ماما الاستباقية، إلا أنها لم تقترح أيًا منها اليوم. < أكتب التدوينة بسبابة تلفها لصقة جروح تضمد ذكريات عمر بأكمله.
الحليب المكثف في تلك الفترة وتلك العصريّات كان اسمه الشائع حليب جاموس 😅
والسبب انه كثيف مثل كثافة حليب الجاموسة اللي ما عمري شفتها 🤷🏻♀️😂
الجميل إنها لا زالت تنظر لك بعين الطفلة فتمرر لك العلبة كما لو أنها مكافأة مؤجلة ✨
الله يحفظها لك ♥️
إعجابLiked by 2 people
صايرة أستنى تعليقاتك عائشة. نحبك ونحب روحك. الله يخليك ويهنيك.
إعجابLiked by 2 people
يا قلبي إنتي يا فاطمة خجلتيني والله🥰🥹
التعليقات عاد حسب تفاعل مشاعري وأفكاري أحياناً تمطر الكلمات وأحياناً تجدب 😂
الله يسعدك ويسعد مشاعل اللي حفزت ذاكرتنا جميعاً بهالتدوينة الجميلة 🤍
إعجابLiked by 2 people
صح عليك بس لاني ما كنت احبه حتى اسمه يسقط🤣
فعلًا عائشة هي تقولها اصلا🥹❤️
اللهم امين ويحفظ لك غالي❤️
يسعدك عيوش على تعليقاتك ووجودك اللطيف جدًا.
إعجابLiked by 1 person
ماممكن أوقف لحظة قدام إني أفتح إيميل فيه إشعار بتدوينة جديدة لك. وفي تدوينات لك أتذوقها بحلاوة تذوق جمهور بسبوسة والدتك. لكن هذي التدوينة تفوز – في قلبي لوحدي- على كل تدويناتك اللي أحبها. وجاءت تطبطب علي. شكراً لك يا مشاعل، مع كثير من الود والاحترام.
إعجابLiked by 2 people
يسعد قلبك فاطمة، كلامك يعني لي والله
الشكر لك ولمرورك اللطيف ❤️
إعجابLiked by 1 person
شكرًا على هذه المدونة أ. مشاعل استمتعت وانا اقرا تدويناتك المتنوعة وبخصوص التدوينة هذه لفتني استخدامك لمفردات هي ذات المفردات التي استخدمها نحو ” بقالة ” والحليب المكثّف قصة عشق لا تكاد تنتهي عندما كنت صغيرًا لولا أنه ” يجرح ” كما تفضّلتي ولكن كبرنا وامتنعنا عن السكّر كليًا 🙂
إعجابإعجاب
اكتشفت هذه المدونة مؤخرة..
احب هكذا مواضيع تبث الدفء للفؤاد
إعجابإعجاب