
تخيل أن ذهابك لأول يوم في الجامعة لا يفتح لك أبواب المستقبل فحسب، بل يفتح أيضًا أبواب ماضٍ لم تكن تدري بوجوده. تخيل أن أول يوم دراسي يُفضي بك إلى لقاء شخص يشبهك تمامًا، ليس في الشكل فقط، بل في كل شيء… وكأنك تنظر إلى مرآة. ثم تكتشف أنه ليس مجرد شبيه، بل أخ توأم. وما هي إلا أيام حتى يظهر ثالث يشبهكما أنتما الاثنين
Three Identical Strangers فيلم وثائقي يحكي عن ثلاثة توائم متطابقين، فُصلوا عمدًا عند الولادة، وتبنّتهم ثلاث عائلات مختلفة تمامًا في المستوى الاجتماعي والثقافي، كجزء من تجربة علمية سرّية! ورغم اختلاف البيئات، كبر الثلاثة وهم يتشاركون صفات متطابقة: من طريقة الضحك، إلى تفضيلات الطعام، وحتى بعض التصرفات الغريبة. كأنهم نسخة واحدة طُبعت ثلاث مرات، لكن هذا التشابه يصبح طفيفًا أمام اختلافات جوهرية تظهر لاحقًا.
لم يكتف الوثائقي بسرد القصة، بل وضعني وجهًا لوجه أمام أسئلة كبرى عن الهوية، الإرادة، وأخلاقيات العلم، ومعنى الأسرة ودور الوالدين، وحدود التنشئة وبالطبع سلطة الجينات والوراثة. هل يمكن للعلم أن يتجاوز حدوده إلى حد العبث بحياة مجموعة من البشر؟ هذا الفيلم ليس قصة، بل جرح مفتوح في ضمير كل من كانت له يد في تلك الدراسة.

بدأت حكايتهم بدهشة ومرح وسعادة، وقبل تصاعد الأحداث قلت لنفسي: جميل لو أجريت عليهم دراسة حول أيهما أقوى تأثيرًا الجينات أم التربية؟ لأني تذكرت دراسات مشابهة وردت في كتاب المخطط الوراثي كيف يجعلنا الـDNA من نكون، عن توائم فصلوا ونشأوا في عائلات مختلفة، قلتها ضاحكة دون تفكير في أبعاد هذه التجربة أساسًا. لكن ما لبثت أن تحولت أفكاري ومشاعري! حين توصلوا لحقيقة مريرة: لقد كانوا ضحايا تجربة نفسية سرّية، أُجريت دون علمهم ولا موافقة أسرهم، ضمن دراسة هدفها معرفة ما إذا كانت الشخصية تتشكل بالوراثة أم بالتربية. في الحقيقة كل شي متعلق بالدراسة ما هو إلا غموض دفعهم إلى العيش بوضع احتمالات وافتراضات لا أكثر.
تتوالى في الوثائقي فصول أقل ما يقال عنها أنها صادمة، ومحبطة.. لست في صدد سردها، لكن يمكنني قول أنهم فصلوا في عمر 6 أشهر، واستمرت الدراسة من عام 1960 إلى 1980 ثم توقفت دون نتائج منشورة، وحفظت سجلاتها كاملة في جامعة ييل، على أن تكون متاحة عام 2066!
لم يكن الأمر مجرّد عبث بمصير أطفال، بل كانت هناك نتائج نفسية مؤلمة، بعضها ترك ندوبًا لا تُشفى طالت عددًا واسعًا من الأشخاص. لم أستطع مشاهدته كاملًا في جلسة واحدة، لأن حجم التفاصيل التي شاهدتها، غلبتني مشاعر حادة، الحياة تعاش مرة واحدة.. فكيف تعيشها وأنت عينة في دراسة؟
لكل من يهتم بالجينات والوراثة والتربية والتنشئة، هذا الوثائقي يشاهد، لا يروى.