توقد

-1-
أولي التفاصيل الصغيرة اهتمامًا دون تكلف وأراعي صغائر الأمور، ويبدو أن رأسي في يوم ما قرر اتخاذ وضعية الملاحظة دون أذن مني، هو يتكفل بالأمور وأنا عضو شرف. وأهتم بالفروق وأقارن كثيرًا بين الأمور وحساسيتي أظنها عكسية إذ أراعي الآخرين في تعاملي وأسقط اعتبارات كثيرة لمحاولة قراءة الحال كل هذا حتى أكون خفيفة. أفهم جيدًا وفي أحيان كثيرة يكون هذا الفهم هو كل مشكلتي. إضافة للفهم ملاحظتي شديدة. وإذا اجتمعا ينتج عن ذلك إدراك مرتفع لكل ما يدور حولي، ألاحظ التأخر عن العادة وإن قل وما لم يقال وكأنه قيل صراحة، التغيرات الصغيرة وما تجره خلفها، النبرة والنظرة وما بينهما. أفهم بعمق لكن إما اختار تجاهل هذا الفهم وكأنه لم يكن أو استباقه حتى لا يكون. لا أبالغ، وأمثلتي على هذا كثيرة، أقول ما سبق لأنه بقدر ما يهمني إلا أنه قد يصل لدرجة الإرهاق في بعض الأحيان. هذا التوقد والحضور الدائم بقصد أو بدون، مرهق. هل لاسمي من هذا نصيب؟ حيلة ضعيفة لحد ما.

-2-
لاحظت سمة لم أكن أراها من قبل بهذا الوضوح والحدة بين طالبات ما زلن في المرحلة المتوسطة. القلق. قلق ظاهر وواضح وغريب حيال أمور بسيطة تحتاج بعض الانتظار! حتى وأنا أخبر الطالبة: عادي خذي راحتك، لسى باقي وقت. طيب روحي للي بعده وبعدين ارجعي خذي وقتك مع هذا….استغرب تعاملهم وإن قد يكون ناتجًا عن حرص مثلًا أو لأي دافع. عندما كنت في المتوسط، أو خلال دراستي كنا نعرف من صديقاتنا من كان القلق ملازم لها لكن لم يكن شيء مرافق للجميع أو الأغلبية، ليس بهذا العدد. أتأملهم وأتمنى لو أعرف ما السبب؟ ما المشترك بينهم؟ وجعل القلق نتيجة؟ 

-3-
 ​لكثرة ما يعبرني أو ما أعبره في الفترة الحالية وهو ليس بالقليل، بت استخدم استراتيجية البنج الموضعي هههههه طبعًا اخترعتها من رأسي. فكرتها ببساطة: أنا أدرك كل الأمور بتفاصيلها لكن اختار بالمفاضلة بينهم أيهم أشغل تفكيري به الآن وأيهم يحتمل البقاء لوقت لاحق فيوضع تحت بنج مؤقت. حقيقة لا أعلم بأي كلمات أصف حال أيامي لكن الشيء العجيب أني لا أشعر بمشاعر سلبية. أدرك أنها فترة ضغط عال جدًا لكن لست مستاءة أو محبطة مثلًا! إنما كل ما في الأمر هو أنني أعي ما يحدث ولن أقول أيضًا هناك مشاعر إيجابية طاغية، لا. تتكرر كلمة مشاعر لكن يهمني فهم ما أشعر به. للمشي بعد الله فضل كبير.  أتعلم تلك اللحظات التي تخاطب فيها نفسك؟ لا أحد يعي ما تمر به لذا لا مواساة ولا تخفيف ولا شيء من أي شيء سوى منك إليك. ثم أولًا وقبل كل شيء الدعاء، لا سلوى ولا طمأنينة ولا قوة كالتي أجدها في الدعاء. يقينًا يطبطب على قلبي ورضًا بكل ما يأتي من بعده. الدعاء حبل متين وقوة داعمة. 

الأمر سيّان

-1-
قرأت ذات مرة بأن أكثر الأسئلة تبدأ بـ:كيف؟ في حين أن معظم إن لم تكن جميع أسئلتي قائمة على: لماذا؟ لم تكن حيرتي في الطريقة، دائمًا هناك حل. إنما في الأسباب والدوافع والمحفزات. في معرفة الأساس الذي قادنا إلى ما وصلنا إليه عند وصولنا أو فيما يدفعنا للوصول إذا لم نسلك طريقًا بعد.
هناك ما يحدث ويجعلني متعجبة فعلًا من مشاعل! لم يسبق لي أن كنت في حالة مشابهة على الإطلاق. غرابة غريبة 😶
اعتدت على ترك الأمور تسير كيفما اتفق، حتى وإن كانت (ظاهريًا) تبدو متناقضة فالأساس واحد وستؤول في آخر الأمر إلى نفس الجهة. لكن هذه المرة؟ لا يخصني الأمر وحدي وهنا مكمن النكتة. لا يملك الجميع القدر نفسه من المرونة واللين، لذا قد لا تُتجاوز (الحماقات المتكررة) عندما تكون نتيجتها متعدية ومشتركة إن كان مرتكبها واحد (أنا)

-2-
الإنسان إنسانًا بما يعتريه ويعبره من مرتفعات ومنخفضات، بقلة حيلته أمام ما استعصى عليه، بتجاربه الجديدة وخبراته القديمة. من هذه القناعة، أنا لا أخجل مما أخوضه ولا من تبدل وتغير حالي. أواجه بكل ثبات لحظات ضعفي التي أدركها تمامًا، تلك التي أقف أمامها عاجزة عن اتخاذ أي خطوة رغم فهمي التام لما يحدث أو حتى النقيض من ذلك. وما كتبته الآن إنما توثيقًا لهذه المواجهة والتي تبدو لي -حتى اللحظة- صماء تمامًا. حين أقرأ ما كتبت، أسأل: ألا يبدو في هذا مبالغة يا مشاعل؟ قد يكون كذلك. لكن على الأقل، أنا أكتب ما أعيشه وأشعر به، أكتب صدق شعوري وأنقل أفكاري كلٌ كما هو. ولا مانع لدي إن بدا في ذلك مبالغة طالما أنه واقعًا قائمًا ولو للحظة واحدة.
مررت بما هو أشد وأصعب أضعافًا كثيرة مما لا يبقي مجالًا للمقارنة. ولطالما كانت الكتابة طريقة للتجاوز، لذا ستبقى كذلك. وليقرأ من يقرأ أو يقرأ من لا يقرأ أو لا يقرأ من يقرأ الأمر سيان.
ولأن مريم قالت: الكتابة تحتاج شجاعة؛ فأنت ستواجه نفسك أولاً وهذا أمرٌ ليس بالهيّن. ثم ستواجه الناس وهو أمر لا أعرف كيف أصفه.

كيف؟

كل ما يدور في ذهنك ويجول في قلبك طوال الوقت، هذا الحضور الكثيف رغم ازدحام يومك، الثبات في التواجد حتى مع انشغال ساعاتك. كيف له أن يعرفه وهو مغلف بجدار صمت طويل؟ لن يُدرك من ذلك شيء، لن يبقى منه سوى فتات، ترسبات تكون جبالًا تثقلك وتشدك لصمت سحيق أشد من سابقه.

هوس

يقول ضيف فهد في قصة قصيرة له: أنا ذاهب في هذا الممر الآن، لمرة أخرى جديدة من مرات لم أكن حريصًا على عدها، لا أمتلك مثل هذا الهوس، ومع كل انعدام للمعنى أو الفهم الذي يسيطر عليّ، لم أصبح من أولئك المعتوهين الذين يحاولون جمع شتات أنفسهم من خلال العد، عد التكرارات السخيفة المحيطة بهم.

وأنا في الجهة الأخرى كتبت: أحب تتبع التواريخ، أحب فكرة المسافة الزمنية والفواصل بين الأحداث وكم زمن الاستغراق لفعل الأشياء.

لدرجة متقدمة أنا مرتبطة بالأعداد، قلتها ذات مرة لا أتذكر أين لكن إلى حد جيد تعطيني الأرقام فهمًا أكبر، حين أحوّل فكرة ما إلى مجموعة أرقام ومن ثم أبحث عن العلاقة بينهم تبدو بهذه الصورة أوضح وأقرب للواقع وأكثر فهمًا. علاقات مثل: أكبر، أصغر، أقل، أكثر، أقرب، أبعد، كم الوقت المستغرق وكم المسافة المقطوعة والزمن الفاصل وكل ما يمكن أن تحمله هذه الأرقام من دلالات ومعاني تتوسع لتشمل مفاهيمًا أعمق. بالطبع ليست كل الأشياء قابلة للخضوع إلى (الرقمنة) لكن كل ما هو متاح لهذا التحول سيكون فهمه أفضل.

أيضًا كتبت: أحب رقم 8 لأنه يشبه علامة Infinite والتي أغرمت بمفهومها منذ أن درستها وأرى رمزها معبر ومنطقي جدًا، دوران لا نهائي.

إذا بالنسبة لضيف، أنا إحدى أولئك المعتوهين الذين يحاولون جمع شتات أنفسهم من خلال العد.

أبويا

أبويا (جدي لوالدتي) حبي الأول بكل ما تحمله الكلمة من معنى، خطواتي وذكرياتي الأولى مرتبطة به، حضوره كثيف في كل سنواتي، منذ ذلك النوع من الذكرى الضبابية، مرورًا بكل مراحلي الحياتية والتعليمية. في الصباح كان يوصلني للروضة التي هي أقرب لمنزلنا منه لكنه يأتي من أجلي، كذلك الحال في المرحلة الابتدائية ولن أنسى فرحته وهو يوصلني عام ٢٠١١ لشراء كتب مقررات الجامعة من إحدى المكتبات، اختار أن يتصل بصديقه: ألو… هلا والله رايح أوصل مشاعل تشتري كتب الجامعة! مشاعل؟ ايوه..دخلت جامعة الملك عبدالعزيز هذي السنة. الله يبارك فيك.. ثم تعليقه بعد انتهاء المكالمة وضحكنا.


فترات الصباح وآخر الليل مرتبطة به وخالي تركي، كنا نقضي برفقته الكثير من أوقاتنا. نبدأ يومنا في بعض الأحيان بالذهاب معه لإحضار الفطور ثم اللعب بالورق أو مشاهدة فيلم كرتون من شريط فيديو أو مشوارنا معه لأرضه وسباقنا له بالسيارة. كنا نخبره ما نريد إذا رفض الكبار طلباتنا، أتذكر بكائي وتركي لأننا نريد شراء بيضة بيكاتشو الآن! ومحاولاته إقناعنا بأن الوقت قد تأخر ووعده لنا بذهابنا في اليوم التالي لكنّا لم نقتنع، ذهبنا بعد العشاء وقد تأخر الوقت فعلًا. حبه لتسجيل الأرقام في دفتر يلازمه، بدأت الكتابة له في عمر مبكرة وكنت أسعد في كل مرة يطلب مني ذلك. جلوسه أمام أوراقه أو ماكينة الخياطة أو أشرطة الفيديو… مشاهد كثيرة يستحضرها رأسي إذا ما أردت كتابتها لن أنتهي هو سيدها وأساسها، صوته وضحكته وخفة دمه وذكاءه.

في طفولتي المبكرة جدًا كنت أنسب نفسي إليه، يسألوني ما اسمك؟ أجيب مشاعل وألحق اسمه ليضحكوا ثم يصححوا لي وأرفض، هم يخبروني لا أتذكر هذا التفصيل جيدًا لكن الآن أعيده إلى قلبي، ربما قلبي اختاره والدًا لي لأنه يمثل دور الأب بأبهى ما يمكن. حفيدته الأولى والوحيدة لسنوات ولا أحد من أحفاده يعرفه مثلي، وأنا هنا أعي ما أقول تمامًا. لم يكوّنوا شريط ذكريات كما فعلت، ولم يعرفوه في قوته ونشاطه. جدنا واحد لكننا نعرفه بطرق مختلفة ونحفظه في ذكرياتنا بأشكال مختلفة ونختصره ونعبر عنه بكلمات قد تصل للتضاد.


والآن، ترهقني جدًا رؤيته وهو يتقدم بالعمر، أن يتبدل حاله ويلزم مكانه بدلًا من نشاطه وخروجه وحركته الدائمة. أن يحتاج لغيره بعدما كنا كلنا نلجأ ونعود إليه. أن يبقى صامتًا معظم يومه وحيدًا وإن اجتمعنا حوله. يفقد أصحابه ومعارفه ونمط حياته السابق. ويذكر جدة بحالها وما كانت عليه منذ سنوات خروجه الأخيرة. ركننا المتين ووثاق أماننا ورجل المهام السهلة والصعبة ومنقذنا، أحبه ويحزنني ضعفه ولكن هذه الحياة. ومهما كتبته لن أوفيه حقه أمده الله بالصحة والعافية.

ضحكة

عندما نضحك سويّا، أنا وماما ويكون لضحكتينا نفس النغمة، البدايات والنهايات تتشابه حد التطابق. أشعر حينها أن قلبي الذي يضحك. كذلك عندما نستمع لأحد ما ثم نطلق ذات التعليق وبنفس الأسلوب! الله الله. تتلاقى نظراتنا لإدراكنا ونبتسم، من أجمل لحظات عمري.

دوّامة

9:05م
أول أسبوع من نوڤمبر كان أسبوعًا لطيفًا، اعتقدت خلاله بأني استعدت روتين أيامي وصار لدي متسع من الوقت لأقوم بما أفضل، كان هذا في الأيام الستة الأولى فقط. أما الآن في العاشر من الشهر، أستطيع القول بأنها خدعة صغيرة. أكتب الآن بينما يفترض بي تصحيح الدوري الثاني والثالث لكل من طالبات الصف الأول والثاني متوسط وأرصدها في سجلاتي ونور وأن أكتب الأسئلة النهائية أو على الأقل أقرأ مقدمة كتاب الحداثة السائلة أو أكمل حلقة Chernobyl. لكني لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء.. أضف إلى ذلك حصص الغد لم أستعد لها بعد. ما زال هناك وقت لكن لأي من هذه الخيارات بالضبط؟

أكتب كثيرًا، أحتفظ بمسوّدة رسالة دائمة. أكتب فيها كما لم أفعل من قبل مع أي مسوّدة كانت. وهذا طقس يعجبني جدًا.

أن يتحول الألم الحاد إلى ما دون ذلك ويندمل الجرح الغائر وما كان بالأمس واقعًا كثيفًا ثقيلًا صار اليوم مجرد طيف ذكرى عبرت وانقضت. يعود هذا لتراكم الأيام أم للنسيان؟ أي للمسافة أم الذاكرة؟

أشعر في هذه اللحظة: كما لو أني سلسلة من الأشياء المتراكمة والمؤجلة والمجتمعة في زاوية.

حيرة

ما زلت عاجزة عن استيعاب كيف لإنسان أن يكون قادرًا على التفوق في تقديم كل هذا الأذى؟ ولمن؟ كيف لقلب يحمل أسمى أشكال الحب: حبًا فطريًا أن يتحول إلى هكذا قسوة؟ ولماذا؟ هناك أشخاص لا أستطيع تخيل -مجرد خيال- أن أؤذيهم بأي طريقة كانت، كيف لو أنهم الأقرب على الإطلاق؟ عجيب الإنسان.

يمكن للمرء أن يغضب كيفما شاء ويفعل ما يريد لكن أن يصل الأمر للظلم والتعدي؟ للأذى صراحة؟ بل يتعمدها بكل ما أوتي من قوة؟ ألا يفترض أن توجد لدى كل منّا قيوده ودوافعه التي تردعه عن ارتكاب الكثير؟ ضميره؟ تفكيره؟ قيمه؟ عاطفته؟ أي سبب؟

كثير مما يجمعنا نحن كبشر، يجعلنا متشابهين في تقبل ورفض بعض التصرفات لأن أساسها واحد فتتقاطع ردات فعلنا حيال حدوثها. هذا بالضبط ما يجعلني لا أفهم! ويدفعني للتساؤل المستمر: لماذا؟ لماذا كل هذا؟ غريب.

ربما تكمن المشكلة في فهم أدوارنا، ما لنا وما علينا. وقبل ذلك “إنسانيتنا” لأنه إذا ما انعدمت الأسباب التي تردعنا عن تعمد الشر لغيرنا، يفترض أن يبقى أحدهم على الأقل: هذا ما لا يقبله إنسان.

من نعم الله، أن الحياة لا تقف، وأننا نستطيع العيش رغم كل ما هو قائم. تعبرنا لحظات نحزن؟ نصاب بالخيبة؟ تخار قوانا؟ نعم وطبيعي لكن في الجهة الأخرى، ما زالت حياتنا شاسعة ممتدة ومتعددة بكل خياراتها، ما زال هناك من يحبنا ونحبه بأجمل ما يمكن للحب أن يكون وهنا ترجح الكفة من جديد وبالنسبة لي هذا يكفيني ويفيض.

أكرر مرة أخرى: عقلي وقلبي عاجزين عن استيعاب قدرة الإنسان الخارقة على التحول وعلى استمراره وحرصه بحصول الأذى لأقرب أشخاصه وناسه.

-_-

ارتكبت اليوم حماقة صغيرة، حماقة من النوع الذي لن يحسب كذلك لولا بعض الظروف المحيطة به. لم أستوعب ما فعلته إلا بعد ساعة تقريبًا! وهنا أنا أكتب الآن وقد مضت أربع ساعات وما زلت غاضبة بعض الشيء، غاضبة إلى الحد الذي جلب معه صداع خفيف. في الحقيقة أنا “متفاجئة” كيف يحدث معي هكذا رغم تركيزي وحرصي على إدارة هذا الموضوع بالذات؟ كنت قد خططت مسبقًا لأمر ما ثم وبدون تركيز مني تجاوزت خطتي والآن أنا في استضافة تأنيب الضمير مع اللوم.